 | صلاحية الكلاميحيى أحمد محمود | مقالةتاريخ النشر: 2025/05/19 اقرأ للكاتب |
مررت بهزات شعورية عارمة منذ بدء الطوفان، بداية بالفرحة الشديدة والمفاجئة، مرورًا بالترقب الشديد، ثم الألم من العدوان الذي وصل إلى مداه ليلة المعمداني المشؤومة. شعرت في هذه الليلة بشعور من الفجيعة لم أشعره في حياتي قط، على كثرة ما مر بي من أحداث. انخلع فؤادي ألمًا والله. واستمرت طاحونة المشاعر بالدوران، من الألم الشديد إلى الشعور بالعجز والإحباط، إلى البحث عن دور، والنشاط لأداء “الدعم” الإعلامي (على تويتر بالتحديد) والتفاعل على المنصات إلخ لعل هذا يخفف من شعور الألم والعجز وقلة الحيلة. إلى أن وصلت إلى حالة احتراق نفسي من فيضان الدماء والمشاهد البشعة التي ملأت حياتنا. كنت أمشي في الشارع أتخيل البيوت مهدمة. أنظر للأطفال أتخيلهم أشلاء. صرت لا أطيق النظر لعيال اخواتي أو حملهم. كانت مشاهد الفرحة تصيبني بالغم. ومشاهد الناس على القهوة تفقدني اتزاني. كأني أعيش في عالمين متوازيين. أمارس حياتي العادية بقلب منقبض. أمشي وأضحك وآكل وفي خلفية ذهني أصوات قصف وصرخات وبكاء. كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الهم والحزن والعجز والكسل. منعني هذا الحزن المقعد من أداء مهماتي اليومية والوفاء بما عليّ من التزامات، فانسحبت قليلاً لأستجمع نشاطي قبل العودة لمتابعة الأخبار. وتكررت هذه الدائرة المشؤومة بوطأة تزداد ثقلاً كل مرة إلى أن وصلت إلى حالة أقرب للقنوط واليأس وحافة الاكتئاب مع استباحة لبنان وتقويض الم (ق) هناك، ثم انتقال أبي إبراهيم رحمة الله عليه. أحيانا كنت لا أصدق ما يحدث وما هو مستمر بالحدوث. أقرأ استغاثات الناس وقت المجاعة الأولى وحصار الشمال، ثم أنظر حولي للصمت البارد وأعرف أن شيئًا لن يحدث. رسالة استغاثة في زجاجة في البحر باستخدام التعبير الفرنسي. كانت تقفز إلى ذهني مشاهد مؤلمة وأنا في الشارع أو وقت الغداء. في كثير من الأحيان كان يملؤني الغضب العارم مع شعور دائم بالإهانة. أقل شيء يتحول إلى شعلة من النيران في صدري. بعد فترة صرت أخاف من دخول السوشيال ميديا وأتجنبها قدر الإمكان. كل الأخبار تغم النفس. لكن الحالة الشعورية التي انتهيت إليها هي الخجل معظم الوقت. أشعر بخجل حقيقي من الحياة الطبيعية عمومًا، والمشاركات على السوشيال ميديا خصوصًا. ليس في كلامي أي لمز أو لوم أو توبيخ والله. لكنني أجد في جميع المشاركات، مهما كانت مهمة وقيمة، أمرًا باعثًا على العار. هناك حدث جلل مستمر، لا ينبغي الحديث في أي شيء سواه. وضع غير مسبوق وغير عادي، ينبغي ألا نسمح بتحويله إلى وضع عادي. ومع ذلك، فحتى الحديث في هذا الشأن يبعث على العار. حتى هذا المنشور محرج ولا يليق. المقتلة دائرة، وواحد يقول: تعالوا أحك لكم عن مشاعري. شيء مخجل. مقزز. للكلام مدة صلاحية (وهذه مسألة مهمة ينبغي أن ينتبه لها المصلحون والدعاة والسياسيون والكتاب وأصحاب الرأي، بل كل الناس. فالزمن يطحن كل شيء بما في ذلك الكلمات وأثرها). وهذا الحدث المكثف غير المسبوق سرّع من خطى الزمن. أبلى الكلمات والمؤسسات والأشخاص والمواقف. ما كان يكفي لم يعد يكفي، وما كان ملائمًا صار مشينًا. انتقلنا جميعًا إلى زمن آخر، لكننا لما ندرك ذلك. ينبغي أن نعيد النظر في كل شيء: في تصوراتنا عن الحياة ومواقفنا وكيفية التعبير عنها، وأدوارنا وماذا نفعل ومستقبلنا ومستقبل عيالنا. تغير العالم. نحن الآن نحيا في عالم جديد بأفكار قديمة ولغة قديمة وتصورات قديمة وهمم بالية. ويهيء لي أحيانا أننا نخشى من مواجهة أنفسنا بهذه الحقيقة. القصد أن كل ما يمكن أن يقال قد قيل (لم يبق إلا الكلمات التي قد تلقي بصاحبها إلى التهلكة). لكنني، على كل حال، أكتب هذا الكلام أولاً لأهلنا في القطاع، ليعرفوا أنهم في قلوبنا، وأكتبه على سبيل التعزية لمن يخوضون تجربة مشابهة، وأكتبه على سبيل الاعتذار للأصدقاء الذين قصرت في التواصل معهم في الفترة الماضية أو الرد على رسائلهم. أسأل الله أن يهيء لنا من أمرنا رشدًا وأن يرفع الغمة ويحسن الختام.
المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك |
|