الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

زوجتي بنان علي الطنطاوي

عصام العطار

سيرة

تاريخ النشر: 2020/04/19
اقرأ للكاتب
مضى في هذه السنة 2019م ثمانية وثلاثون عاما على استشهاد زوجتي بنان علي الطنطاوي "أم أيمن" رحمها الله تعالى في 17-3-1981م.
ثمانية وثلاثون عاما مضتْ على غياب هذا الكوكب الذي أضاء حياتي وحياة أسْرتي في أحلك ليالي الغربة والتشرّد والخطر والمَرض، وأضاء لمََنْ كان حولنا حيثما سرينا في الأرض.
ثمانية وثلاثون عاما مضت على فراق زوجتي وحبيبتي وصديقتي ورفيقة دربي، وسندي وعوني حيث لا سند ولا مُعين إلاّ الله.
ثمانية وثلاثون عاما مضتْ على رحيل هذه المسلمة العظيمة، والزوجة العظيمة، والأم العظيمة، والإنسانة العظيمة.. لمْ تحمل في قلبها وفكرها هموم بلدها وأهلها وأخواتها وإخوتها فحسب، بل حَمَلَتْ مع ذلك هموم عالمها العربيّ والإسلامي، وهموم الإنسانية والإنسان أَنَّى كان هذا الإنسان، وفاضت في قلبها الرحمة فشملت سائر المخلوقات، وكَمْ رأيتُها تبكي لمآسي ناس لا نعرفهم في بلاد لا نعرفها، وكم سمعتُها تُذكِّر في أحاديثها ودعوتِها إلى تعارف الشعوب، وتراحمها وتعاونها على الحقّ والعدل والخير، بقول الله عزَّ وجلّ لرسوله الكريم : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)-الأنبياء: 107- وقولِ الرسول صلى الله عليه وسلم: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُم الرَّحْمَنُ تبارك وتعالى. ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاء"، وقول الله تبارك وتعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) -المائدة: 2-
لم تكن الأخوَّة الإنسانية، والمسؤولية الإنسانية، وعالمية الإسلام عندها مجرد شعارات أو كلمات؛ ولكنها كانت حقيقة راسخة مُؤثّرة في الفكر والشعور، والضمير والسلوك.
وكانت -رحمها الله- تعرفني وتفهمني وتُحِسّ بي إحساسا عجيبا كأنها تسكن في داخلي، وتعيش معي مشاعري وخواطري، ولو لم أنبس ببنتِ شفة. كانت تستطيع بنظرةٍ واحدة خاطفة أن تستشفّ ما يدور في خَلَدي، وأن تعرف -مَهْما كنتُ عاديَّ المسْلَك، هادئ المظهر- إن كنتُ في أعماق نفسي حزينا أو مسرورا، مشغول البال أو مُطْمئنّ النفس، وكانت وهي شريكة حياتي كلها تستطيع أن تُقدّر دون سؤال أسباب ما أنطوي عليه من سرور أو حزْن، ومن طمأنينة أو قلق، وما كان أقدرها عند ذلك على أن تحيطني من محبَتها وفهمها ومشاركتها الوجدانية العميقة الصادقة في ظروفنا المختلفة الصعبة بكلّ ما يسرّي عن النفس، ويُجدّد العزم والنشاط، ويعين على متابعة الطريق مهما كانت المصاعب والظروف.
كانت -رحمها الله- قادرة رغم حساسيتها الشديدة وتأثّرها الشديد بكلّ ما يعرِض لنا أو ينـزل بنا قادرة على أن تسْتَنْبت أزاهيرَ سرور في أراضي الأحزان، وتوفّر لنا لحظات مُتَع بريئة في زحْمة الواجبات والأعمال، وأن تحوِّل غرفا حقيرة سكنّاها إلى ما هو أحْلى من قصور، وأن تجعل سعادة غريبة تسكن معنا وتعيش بيننا حيث سكنّا من البلدان، وكثيرا ما شعرنا في غرفنا الحقيرة بهذه السعادة الغامرة، وبنشوة الاستعلاء على الشدائد والمغريات في سبيل الله عزَ وجلّ، فردَّدْنا أو أنشدْنا -بنان وأنا وطفلانا الصغيران: هادية وأيمن- فرادى ومجتمعين هذه الأبيات القديمة الرائعة التي كانت وما تزال تهزّنا هزّا، والتي كانت تعبِّر وما تزال تعبِّر عنّا وعن حالنا وخيارنا الجميل النبيل الأليم:
فإن تكن الأيام فينا تبدلتْ
ببُؤْسى ونُعْمى والحوادث تفعلُ

فما ليّنتْ منّا قناة صليبة
ولا ذلّلتْنا للّتي ليس تَجْمُلُ

ولكن رحَلْناها نفوسا كريمة
تُحَمَّلُ ما لا يُسْتطاع فتَحْمِلُ

نعم، لم نكن دائما في طباعنا ورغباتنا وآرائنا وخياراتنا في أمور الحياة المختلفة صورة واحدة لا نختلف أبدا في حُبّ أو كُرْه، وفي تقويم أو حُكْم، وفي رأي أو خيار.. ولكن لم يكن يطول أو يشتدّ بيننا خلاف إن حصل -وندَر ما كان يحصُل بيننا خلاف-، فالبواعث في حياتنا واحدة، والمنطلقات واحدة، والغاية واحدة، والأهداف واحدة، والمقاييس والموازين واحدة، والحبّ العميق المتجدِّد لا ينضَب ولا يضعف، والإعجاب والتقدير والعرفان يزداد يوما بعد يوم ولا ينقُص.
كانت إذا أحسّتْ في نفسها، أو أحسّت منّي في حوارنا ونقاشنا في بعض الحالات النادرة بوادر زعل أو غضب لم تسمح لهذا الحوار والنقاش أن يستمر ويشتدّ، وانفردتْ بنفسها ساعة تطول أو تقصر تقرأ القرآن -كما تعوّدتْ- بقلبها وعقلها ولسانها ودموعها.. ثم تنهض أهْدأ ما تكون حالا، وأرضى ما تكون نفسا، وأكثر ما تكون انشراحا ونشاطا.. للّه هذه المرأة المسلمة ما كان أوثق ارتباطها بكتاب الله عزَ وجلّ، كان القرآن العظيم حقيقة لا كلاما ولا وهما ربيع قلبها، ونور صدرها، وجلاء حزنها، وذهاب همّها.. كان القرآن حياتها وباعثها، ودليلها وهاديها في مختلف مشاعرها ومواقفها وخطواتها، وكان حِصْنها الحصين، وملجأها الأمين، عندما كانت تُطْبِق علينا في بعض أيامنا الظلمات، وتعصِف حولنا العواصف، وتطرُق أبوابنا المخاوف والمخاطر، فلا يكون أحد في الدنيا أكثر منها وهي تعتصم بالإيمان والقرآن طمأنينة وأمنا، ولا قدرة على الثبات والصبر، وعلى تحدّي الطاغوت ولو ملأ بطغيانه الدنيا.
قلت قبل قليل: كانت بنان -رحمها الله تعالى- إذا أحسّتْ في نفسها، أو أحسَّت منّي في حوارنا ونقاشنا بوادر زعل أو غضب لم تسمح لهذا الحوار والنقاش أن يستمرّ ويشتدّ، وانفردتْ بنفسها ساعة تطول أو تقصر تقرأ القرآن -كما تعوّدتْ- بقلبها وعقلها ولسانها ودموعها.. ثم تنهض أهدأ ما تكون حالا، وأنعم ما تكون بالا، وأوفر ما تكون انشراحا ونشاطا، ولا نستأنف ما كنّا فيه من حوار ونقاش؛ ولكنها تكتب إليَّ قبل أن ينصرم النهار، وينْسَدِل الظلام، رسالة فيها ما يشاء المُحبّون الصادقون من رِقّة وعاطفة وأناقة وجَمال.. رسالة مِلْؤها الحبُّ والعرفانُ وشُكْرُ الله عزَّ وجلَّ على ما أنعم به علينا من الإيمان والطاعة والمحبة والسعادة، ومن سائر النّعم، ثمّ تعرض عرْضا موضوعيّا أمينا ما دار بيننا من حِوار ونقاش، وما اتفقنا عليه أو اختلفنا فيه، وتشرح وجهة نظرها بهدوء ووضوح واختصار، ثم تترك في نهاية الرسالة الأمر إليّ أختار فيه ما أراه، وأنا أختار عادة في أمورنا الخاصّة ما تختاره هي، فإذا تعلّق الأمر بواجب من الواجبات، أو بما يجُرّ نفعا أو ضررا لآخرين، عاودْنا الجلوس والحوار والنقاش بهدوء وانبساط واستيعاب، وانتهينا فيه إلى اتفاق على ما نراه صوابا أو أقرب إلى الصواب.
وكتابة الرسائل عند "أم أيمن" رحمها الله إلى زوجها عادة من أرسخ العادات عندها وأجمل العادات وأنفع العادات؛ فهي تكتب إليّ ونحن نعيش في بيت واحد، ونتحدّث ما شئنا الحديث في أيِّ ساعة من ساعات الليل والنهار في أيّ أمر من الأُمور كبُر أو صغُر بشغف وبعفوية وبساطة دون أيّ تكلّف أو حَرَج؛ ولكنها مع ذلك تكتب إليّ.. تكتب لتعبّر بأسلوب بليغ ساحر عن أعمق أعماق نفسها، وعن أدَقّ أحاسيسها ومشاعرها.. عن محبتها الغامرة لزوجها وطفليها وأهلها.. عن حنينها الدائم للشام، وأحبابنا في الشام، ومدارج طفولتنا وشبابنا وذكرياتنا في الشام.. عن مآسي العرب والمسلمين والإنسانية والإنسان، وعن همومِهم ومآملِهم في كلّ مكان.. وعن واجباتنا الكبيرة الكبيرة التي يجب علينا أن ننهض بها، ونكرّس لها حياتنا كلّها حيثما كُنّا من الأرض.
هذه الرسائل التي كتبتْها بنان بقلبها وفكرها، وأحاسيسها ومشاعرها، وثقافتها وتجربتها، وآمالها وأحلامها.. هذه الرسائل كنز إسلاميّ إنسانيّ أدبيّ لا يُقدَّر بثمن؛ ولكنني أضعتُ هذا الكنز واأسفاه.. أضعتُه أو سُرِق مني مع ما ضاع أو سُرِق من أوراقي الأُخرى، عندما فُرِض عليّ فرضا من سلطات ألمانية ألاّ أستقرّ في مكان، فهناك -كما قالوا- قتلة مسلّحون يقتفون أثري، ويريدون قتلي، فيجب أن يتغيّر عنواني وسَكَني باستمرار.
قلت لهم:
- دعوني أُقتَل فأنا لا أخاف القتل، ولا أرهب الموت، ولا أحمِّلكم ولا أحمِّل أحدا غيري مسؤولية ما يُصيبني.
قالوا:
إنّ وجودك في مكان دائم يهدِّد حياة غيرك من السكّان، وينشُر القلق والفزع في الشارع الذي تسكن فيه، ويصنع كذا وكذا وكذا من الأخطار والأضرار، فلا بدّ لك -كما طلبنا- من تغيير عنوانك وسكنك باستمرار!.
وجمعتُ أوراقا مهمَة لي، أثيرة عندي، ومن أهمّها رسائل أم أيمن القديمة والحديثة، ووضعتُها مع المصحف الشريف في حقيبة خاصّة، وأسلمت نفسي لقضاء الله وقدَره.
سَنَة ونصف السنة، لا يكاد يستقرّ جَنْبي في بلد أو سَكَن حتى يقال لي: ارحلْ فقد عُرِف مكانك! ارحل.. ارحل.. ارحل، وفي هذا الرحيل المتواصل في الصيف وفي الشتاء، وفي الربيع والخريف، بين مدن وقُرى، وفنادق ومنازل منقطعة عن العمران، يُباعد بعضها عن بعض أحيانا مئات الكيلومترات، وأنا مُتعَب مُرهَق مريض مريض.. في هذا الرحيل المتواصل فُقِدت منّي -أو سُرِقت منّي- أوراقي وفيها.. وفيها.. وفيها رسائِل أم أيمن رحمها الله، وكلمات من كلماتها، فلم يبق لي إلاّ بعض رسائل وكلمات سبق نشرها أو نُسِخ منها من قَبْل نُسَخ أخرى.
يا قرائي الأعزاء
ما أحَبّتْ زوجة زوجها أكثر ممّا أحَبَّتْ بنان زوجها
وما فهمتْ زوجة زوجها أكثر ممّا فهمتْ بنان زوجها
وما أعانتْ زوجة زوجها أكثر ممّا أعانتْ بنان زوجها
وما تعبت زوجة بزوجها، ولا ضحَّت زوجة من أجل زوجها أكثر ممّا تعبت وضحَّت بنان
وما شاركتْ زوجة زوجَها في النعماء والبأساء، والسرّاء والضرّاء، واليسر والعسر، والصحة والمرض، والأمن والخوف، والغربة والوطن بقلبها وفكرها وكلّ كيانها وطاقاتها، وآثرتْ زوجها على نفسها في مختلف ظروفها وحالاتها أكثر من بنان.
لقد امتزجتْ حياتها بحياتي قلبا وفكْرا، ورؤْية وأملا، وإرادة وعملا.. كان قلبي ينبض في صدرها فتُحسّ ما أُحِسّ، وتطلب ما أطلب؛ وكان قلبها ينبض في صدري فأحسّ ما تحسّ وأهْفو إلى ما إليه تهْفو، فكأنّنا في معظم أمورنا شخص واحد: إذا تكلمتْ -كما يعرف ذلك كلّ من صَحِبنا أو عرفنا أو سمعنا- فالروح روحي، والنّبْرة نبْرَتي، واللهجة لهجتي؛ وإذا كتبتْ فاللغة لغتي، والأسلوب أسلوبي؛ فما يفرِّق بين ما أكتبه أو تكتبه إلاّ ذوّاقة بصير خبير.
يخْطُر لي أحيانا خاطر مفيد أو طريف أو جميل، وأهُمّ بأن أكاشفها به، فأُفاجأ بأنّه قد خطر لها مثلي، فهي تتحدّث إليّ به قبل أن تسمع منّي.
وأفكّر في عمل واجب نافع، فإذا هي تلفتني إلى مثل هذا العمل الواجب النافع، وما نبسْتُ بشأنه بحرف، ثمّ إذا هي تسابقني إليه وتسبقني في الحماسة والتخطيط والتنفيذ، وتبسُط يدها المحبّة الحانية لزوجها المريض لتعينه على أداء الواجب ومتابعة الطريق
هذه لمحة خاطفة -لمحة خاطفة فقط- من "بنان" وحياتي مع بنان
هذه لمحة خاطفة فقط من حياتي مع زوجتي الشهيدة التي اغتالوها ظلما وغدرا على عتبة بيتنا في آخن
هذه لمحة خاطفة من حياتي مع زوجتي العظيمة التي فقدتُها قبل ثمانية وثلاثين عاما في 17-3-1981م، ففقدتُ الحبيب والصديق والمُعين
قال مَلِك عربيّ لمسؤول كبير جدّا في سورية:
- نحن نفهم أن تقتلوا عصام العطار، أمّا أن تقتلوا زوجته..!!!
قال المسؤول الكبير في ذلك الحين:
- نحن لم نقتل عصام العطار كما أردنا، ولكنّنا أصبْناه في مقتل.. لقد قطعْنا بقتل زوجته بنان يده ورجله، ولن يستطيع بعدها أن يتحرّك كما يتحرّك، وأن يعمل كما يعمل.
يا قرائي الأعزاء
إنّ نفسي تموج في هذه اللحظة بالذكريات والمشاعر والخواطر والدموع، ولكنّ يدي المهتزة المرتجفة الواهنة لم تعُد قادرة على الكتابة ولا على الإمساك بالقلم، فوداعا هذا اليوم ووعدا لكم أنني سأتابع معكم الحديث -إن شاء الله تعالى- عن هذه المسلمة العظيمة، والشهيدةِ العظيمة، فهذا حقّ الله عليّ، وحقّ التاريخ عليّ، وحقّ أجيال إسلامية جديدة تحتاج القدوة الصالحة بمِثْل هذه المؤمنة الرائعة الشامخة.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  9115