الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

في مديح الكتابة

محمد عبد العزيز

مقالة

تاريخ النشر: 2025/08/23
اقرأ للكاتب
لعلي أخذت فكرة مقالي من العنوان الذي صدر حديثًا للكاتب رائد العيد بعنوان "مدائح تائهة"، وأخذت أفكر في الكتابة، وهي أحد أنواع القلق عندي، قلق العثور على الفكرة والتفاعل معها، وضم المعلومة بجانب أختها، والتحقق منها، وصياغتها في أسلوب سلس، وتخيُّل القارئ العدوّ واللئيم والحاذق والفاهم، وقلق التعبير عما شعرت به، ثم الخوف مِن هل قمت بكل ذلك على الوجه الأكمل أم لا؟ أحيانًا أقول لنفسي: "أنا هاوٍ" حتى أتجاسر على الكتابة، فالكتابة "مسألة وقاحة" كما يقول شكري عياد.
تفكيك كلمة الكتابة في عقلي هي: ساعات ضخمة من القراءة، وتأملات لفهم النصوص، لا يأتي في بالي مفاهيم الإلهام أو الإبداع، أشعر بظهر يتألم من طول الجلوس للمطالعة والدرس من أجل إنتاج نص جيد أو فكرة متماسكة أو حتى نص من نوع السهل الممتنع، أقصد به الممتع لكنْ خلفه جهد كبير في الفحص والنظر.
............................................
هناك تجربة التقمص عند القراءة، كلما تصفحت كتابًا يسرد حياة شخص، أحاول الإجابة في داخلي عن الموقف الذي كنت سأتخذه لو تعرضت لما يصفه الكاتب من تجارب، هذا الحوار الذاتي المستمر في أثناء القراءة ينمي الوعي بخيارات الإنسان، ويساهم في محاولة فهم تجارب الآخرين والتعاطف معهم، وفهم ذاته في الوقت نفسه.
............................................
أكتب في كل مكان وعلى أي شيء أجده أمامي حينما تنثال الفكرة ولا أدَعها تهرب، أدوّنها في الهاتف أو في غلاف الكتاب الذي أقرأ فيه. كان الشاعر إبراهيم ناجي يكتب قصائده على علب السجائر، ويكتبها بأقلام الحواجب التي تستخدمها النساء إذا لم يجد معه قلمًا، وقد يكتبها بوسائل أخرى كثيرة لا يعجز عنها الشاعر، بل يتلذذ بها. ألم يكُن شِعر أبي نواس يُكتب على عصائب الحسان، وعلى المناديل؟ وكان أحمد شوقي يكتب على علب السجائر.
............................................
‏من حِيَل المؤلفين على القراء أن يسبَّ نفسه ويقلِّل منها حتى ينجو من هجاء القراء، مثل تلك القصة التي حكاها المترجم بدر الرفاعي في مذكراته "بحثًا عن الدائرة المغلقة" عن سنوات دراسته للصحافة، عندما كان طالبًا في الكلية كلفه أستاذه عمل بحث عن الصحفي محمود السعدني، وذهب بدر إلى السعدني يستفسر منه عن تجربته في الكتابة. كان للسعدني في ذلك الحين برنامج إذاعة يوقعه باسم "النصّاب، الحلنجي، محمود السعدني"، وسأله بدر عن السبب، قال السعدني له: "اسمع يا بدر، لو قلت لك يا بدر انت ابن كلب هتزعل، لكن لو قلت لك انت ابن كلب زيي مش هتزعل، فأنا أشتم نفسي قبل ما يشتموني ولاد الكلب".
............................................
وأحيانًا تأتي ظروف الحياة وتفجر طاقة الإبداع والكتابة عند المؤلف، فقد كان السجن مثلًا نقطة تحوُّل في حياة محمد الماغوط، وفيه بدأ حياته الأدبية الحقيقية. أول حرف متوهج كتبه كان في ظلام السجن البارد في منتصف الخمسينيات. يقول الماغوط: "معظم الأشياء التي أُحِبُّها، أو أشتهيها، أو أحلم بها، رأيتها من وراء قضبان السجن: المرأة، الحرية، الأفق".
............................................
أعجبتني تأملات آني ديلارد في كتابها الرائع "الكتابة"، فهي تقدّم ملاحظات عميقة من خلال تجاربها الذاتية، وتحكي عن الحذف وتشذيب النص ومعاناة الكتابة وعزلة المؤلف وصعوبة بدء الكتابة في الصفحة البيضاء، وكتابها يصلح لمن يهتم بالكتابة الإبداعية وكتابة الأدب. تقول: "إنّ فكرة تأليف كتاب مثيرةٌ ومبهجة، وهي صعبة ومعقدة بذات القدر، لأنها تتطلب منك استخدام كل حواسّك. إنها حياة في صورتها الحرة دون قيود أو شروط. ولكن حريتك بصفتك كاتبًا، المتمثلة في حرية التعبير، لا تعني الثرثرة الجامحة، فلا تطلق العنان لذلك".
............................................
منذ عدة أيام مَرَّ بنا عيد ميلاد الكاتبة صافي ناز كاظم، فهي من مواليد 17 أغسطس 1937، وقد بدأت الكتابة منذ عام 1951، وأَصْل الكتابة عندها طاقة تعبير كامنة في الصدر، تبحث لها عن صياغة تلفلفها كالوليد الناطق في المهد، يقول: "إني عبد الله"، وفي كل مرة تكتب تستعدّ لهذه الصياغة، تتبرأ مِن حولها ومِن قوّتها، وتدعو الله وهي ساجدة راجية: "ألوذ بحولك وقوّتك، فأعنّي على القول بحلاوة، فلا حول ولا قوة إلا بك"، وهي قبل الكتابة متورطة في الوعد بها وتكاد تتعهد بألَّا تعود لمثلها، ولكنها بعد الكتابة سعيدة فرحة بها كأنها قد ربحت ما لم تكن تتوقع، وهذا ما تسمّيه في مقدمة كتابها "تاكسي الكلام" علاقة "حب/كراهية" بالكتابة.
............................................
الكتابة تساعدني على مراجعة الذاكرة وسرد الحكايات واسترجاع الماضي، ومن العجيب أننا كلما سردنا قصص حياتنا تطورت تفاصيل الحكاية وزاد وعينا بذواتنا، كأننا في كل مرة نحكي فيها نفهم أنفسنا أكثر ونستوعب أثر التجارب والزمن فينا، نُعيد الرؤية، ويُرضينا رؤية شغف القارئ بتفاصيل حياتنا، هكذا لا تملّ الأنا من صناعة نفسها.
............................................
تصاحبني في الكتابة أحيانًا كأس شاي مضبوطة بالزعفران أو مصحوبة بالقرنفل، وأحيانًا مع النعناع أو الحبق، أو كأس كرك تجد فيها حلاوة كأنك وجدت الخلطة السحرية، أو عصير ليمون تشربه فتشعر أنك انتعشت كورقة شجر في يوم من أيام نار الله الموقدة في أغسطس الحارّ تمرّ به نسمة هواء عليلة. لستُ صديقًا للقهوة لأمدحها، كان الشاي رفيقي في الصباح المرهق والمساء مع الأرق، وحده بخفته يجلو بقايا النعاس والملل.
............................................
قلت لصديقي وبيننا كأس شاي: لجوء القراء إلى الشعر واقتباسات الروايات هو حيلة يلجأ إليها الإنسان حتى يتمثل المعنى، دون أن يعلن أنه مخترع الفكرة أو الذي يصرح بضعفه، وهنا شجاعة الأديب، يتحمل عنا التعبير ويصرح لنا بحبه لخبز أمه، أو عشقه، أو حتى يصرخ بشعار "لا تصالح"، كأنّ القارئ يقول: ليتني أستطيع قول ذلك.
............................................
إذا سألتني على طقوس الكتابة فأنا أُحِبّ الأقلام، وعندما أدخل متجرا لبيع المواد التجارية، أتوقف عند قسم الأقلام وأشترى قلمًا جديدًا، رغم أنني أكتب على الكيبورد، لكني أخاف دائمًا من القراءة دون قلم، لذلك أشتري الأقلام حتى اخربش على هوامش صفحات الكتب بهواجسي.
............................................
كنت أكتب في إسطنبول مقالاتي في غرفة باردة لا تصل إليها التدفئة، ليست هذه المشكلة، فطوال ما أنا أكتب أكون في عالم آخر وأمام صفحة الحاسوب وأضغط على الكيبورد، لكن البرد القارس الذي يجمّد الأطراف يظهر عند إرسال المقالة، أبحث ساعتها عن الدفء، وأتعجب كيف صبرت هذه المدة! يقولون: "الكتابة علاج". بالنسبة إليَّ هي ذهول عن الواقع ودفء.
............................................
مَن يكتب مقالًا يَعِش قلق البحث والتفكير في موضوعه القادم مع ضغطة زر إرسال مقاله السابق، يَعتبر الماضيَ فات ويفكّر ماذا سيكتب، وإذا استقرّ على فكرة يمررها على عقله ويقول: كيف سأتناولها؟ أُحِبّ أن أكتب بحماس بائع يريدك أن تشتري بضاعته.
تفسّر آني ديلارد في كتابها "حياة الكتابة" حُبّ قراءة الكتب بدلًا من مشاهدة فيلم على الشاشة، وتعزو ذلك إلى أن الكتاب في نهاية المطاف هو أدب، إنه شيء رقيق، مسكين، ولكنه شيء يخصّنا. ومن وجهة نظرها، كلما كان الكتاب ذا صبغة أدبية أكثر، مكتوبًا بعناية فائقة جملةً وراءَ جملة، وكلما كان مُثقلًا بالخيال الخصب، أو المنطق الجميل، أو عميقًا رنانًا، راق للناس أكثر، فالقُراء هم أناسٌ مُحبّون للأدب، مهما كان ذلك الأدب، ولذا فَهُم يُحبّون، أو يحتاجون إلى، تلك السمة التي لا تمنحها إياهم سوى الكتب. وإذا ما أرادوا مشاهدة فيلم في تلك الليلة فسيشاهدون فيلمًا، وإذا لم يرغبوا في قراءة كتاب فلن يقرؤوا. إنّ الناس التي تحبّ القراءة ليست عاجزة عن تقليب قنوات التلفاز، ولكنها تفضّل الكتب.
............................................
يحتاج الكاتب أحيانًا إلى المدح الصادق، فهو وقود للمبدعين، والبخل به بحجة أنهم يعرفون أنهم مميزون حجة غير منطقية. أنا على مذهب رفع الصوت بالمدح ليصل إلى سمع من أهدى إلينا معروفًا جميلًا، سواء كان وجبة طعام أو كأس شاي أو كتابًا رائعًا. لا تهمس بالتقدير كأنه سِرّ، فالاعتراف للآخرين بقدراتهم تخلُّص من الأنانية.
............................................
يقول الأديب السوري أحمد الجندي في مذكراته الرائعة "لهو الأيام": "الشاعر كالطفل، يُحِبّ التقدير والتربيت على الكتف، ويُسَرّ للمديح والإطراء. ولقد أحرجني مرة الشاعر أمين نخلة فطلب مني أن أُسمِعه أبياتًا لي، في حضور أحمد رامي وصالح جودت، فأُعجبوا بها".
............................................
أَحَبُّ أنواع القراءة عندي القراءة الليلية بعد التعب اليومي، القراءة بعد الانغماس في كدح الحياة ولغو الناس والكلام العادي المستهلك، ويأتي الكتاب كأنه يطهّر عقلي من أدران الروتين ويدعوني لوجبة فخمة من روائع المقال، وأتشارك خلاصة أفكار الحكماء والعقلاء، كأنني في عشاء فخم خاص مع علية القوم وسادة البشر.
............................................
والقراءة في الليل تذكّرني بقول عبد الفتاح كيليطو: "إننا حين ندرس نصًّا نفترض أنه غامض، فنحمل مصباحنا المنهجي لنضيئه، وهكذا يتحول الدارس إلى مخلوق عجيب، إلى مشّاء يقتحم الليل وفي يده سراج يستنير به". الكاتب في الليل لا يتوقف عقله عن الاشتغال بنصه والتفكير فيه، يخبرنا أوكتافيو باث عن الشاعر الفرنسي سان بل رو أنه كان يعلّق لوحة خارج غرفته مكتوبًا عليها "الشاعر مشغول" حتى في أثناء نومه.
............................................
يخبرنا عبد الوهاب المسيري في مذكراته "رحلتي الفكرية" أنه كان قبل أن يخلد إلى النوم يضع إشكاليةً ما في عقله، ثم ينام على أن يستمرّ عقله في التفكير، حتى إذا استيقظ في الصباح شعر بملامح الحل قد تبلورت.

المصدر: صفحة الكاتب على فسبك

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  7752