 | فسحة التمنيمحمد بوراس | مقالةتاريخ النشر: 2025/07/28 اقرأ للكاتب |
التمنّي ليس رغبةً عابرة تطرأ على سطح العقل، بل هو شوقٌ مقيم في أعماق الكائن، ينهض من صمت الخيبة كما تنهض السحب من تبخّر البحر. هو صدى الإنسان حين يعجز عن التغيير، مرآته التي يرى فيها كل ما لم يكن، وكل ما كان ينبغي أن يكون. تناقضٌ عميق يسكن التمني: فهو يتغذّى من الأمل، لكنه كثيرًا ما يفضي إلى اليأس، يُولَد من الحلم، لكنه قد يُطيل الإقامة في الحُزن. إنّه طفلُ الرغبة وشيخُ الأسى في آنٍ. يحملك كطائرٍ نحو فضاءٍ لا حدود له، ثمّ يتركك معلقًا في الهواء، تتأرجح بين الرجاء والخذلان. التمنّي، في جوهره، فعل مقاومة. إنه إعلان باطني ضد صلابة الواقع، تمرّد هادئ لا يُسمَع له صوت، لكنه يُحدث ضجيجًا في الروح لا يُطاق. فمن ذا الذي يمكنه التمنّي لو لم يكن في قلبه وادٍ من الحرمان؟ ومن ذا الذي لا يتمنّى إلا لأنه عرف لذة ما، أو تخيّلها، ثم فقدها، أو لم يجرّبها قط؟ هناك ما هو أعمق من اللذة في التمنّي: وَهْمُ العدل. فالتمنّي في جوهره بحث عن اتّساقٍ مفقود، عن معادلة مستحيلة بين ما نستحقّ وما نلقَى، بين ما نحمله في داخلنا من رؤى وما يلقاه الخارج من صمت وجفاء. ولذا، لا يكون التمنّي ضعفًا، بل دلالة على أن النفس لم تتصالح مع قبح العالم بعدُ، وأن في أعماقها شيئًا لم يفسده الرضى الزائف ولا التكيّف الجبان. ثم إن التمني، رغم خفته اللغوية، يحمل أثقل ما في الوجود: احتمال الزمن. هو رهان على ما لم يحدث بعد، مراهنة على الغيب، وعلى حُسن تصرّف الأقدار. وكل تمنٍّ هو ترجمة لفجوةٍ بين الحاضر والممكن، بين اليد التي لا تمسك سوى الفراغ، والعين التي تتطلّع إلى الامتلاء. هو الدليل الدقيق على وعي الإنسان بمحدوديته، واحتكاكه الدائم بما يتجاوز إدراكه، وبما لا قدرة له على تغييره. لكن التمني ليس دائمًا نبيلًا، فقد يكون حيلةً للهرب من الواقع، أو حجابًا يخفي به الإنسان عجزه، أو حتى أداةً لتبرير كسلٍ غامض. وكثيرًا ما يُلبِس التمني الإنسانَ ثوبَ الضحية، ويغريه بالبقاء في ظلال التوق دون أن يتقدم خطوة نحو الحقيقة. فالتمنّي، حين يُستساغ أكثر من الفعل يصير وهمًا مريحًا، وكأننا نُقنع أنفسنا بأننا "نريد" فقط لنبرّر أننا لا "نفعل". ومع ذلك، لا يمكن اجتثاث التمنّي من الذات، إنه من مكوّنات الوعي، من الأنسجة العميقة التي يتألّف منها الكائن المفكّر، وقد لا يكون الفارق بين من يعيش حياة كاملة ومن يحيا في شظاياها، سوى طريقة تعاطيه مع التمنّي: هل يجعله محرّكًا للفعل أم ملاذًا للهرب؟ إن أعذب الأمنيات ليست تلك التي تتحقق، بل التي تُبقينا أحياء ونحن ننتظرها، تلك التي تحوّلنا من كائنات مسحوقة تحت وطأة الرتابة، إلى مخلوقات تحتفظ ببعض الضوء في عيونها، ولو كان وهجًا باهتًا من قمرٍ بعيد. وفي النهاية، لا يُقاس الإنسان بما أنجز فقط، بل بما تمنّاه، بما استطاع أن يتخيّله ممكنًا وسط المستحيل، وبما ظلّ يؤمن أنه يستحقّه، وإن خانه الزمان والمكان. فالتمنّي، في آخر الأمر، هو نَفَسُ الحرية في أقسى لحظات العجز، وبريق الروح في ظلمة المادة، وهو أوّل اعتراف بأننا لسنا مجرّد كائنات بيولوجية تسعى وراء البقاء، بل أرواح تُصغي إلى ما لم يُقَل بعدُ، وتشتاق إلى ما لم يُمنَح، وتعيش -في صمتها العميق- ما لا يستطيع العالم أن يمنحها إيّاه. لكنه، وإن بدا في ظاهره نعمةً تسعف الروح في لحظات التيه، يحمل في طيّاته وجهاً آخر أكثر إيلاماً: وجه التآكل البطيء. فمن أكثر المشاعر استنزافًا للإنسان تلك الرغبة الصامتة في شيء لا يمكن لمسه، لا يمكن الإمساك به، لكنه يُراوده كطيفٍ يزوره مع كل يقظة وكل غفوة. التمنّي لا يُطفئ ناره التحقّق، بل يخلّف رمادًا آخر يبعثُ في القلب حنينًا جديدًا، حنينًا إلى ما بعد التحقّق، إلى ما بعد الحلم، إلى ما لا اسم له. والتمني هو الكلمة التي نكتب بها على جدار الزمن عجزنا عن نسيان ما لم يحدث. هو التفسير الصامت لكل تنهيدة عميقة، لكل نظرة ممتدة في الفراغ، لكل خفقة قلب لم تجد طريقًا إلى صوت. هو انتظارٌ بلا موعد، وشغفٌ بلا سبب. ومن فرط تكراره، يتحوّل أحيانًا إلى طقسٍ داخليّ، يُمارس دون وعي، كما يتنفّس الكائنُ رغبته في البقاء. وما أكثر ما يخدعنا التمني، يُظهر لنا ما نريد لا ما نحتاج، ويجمّل البعيد لأنه بعيد، لا لأنه أجمل. نتمناه فقط لأنه ليس في أيدينا، لأننا نظنّ أن الألم في ما نملكه لا في أنفسنا، فنُسقط نواقصنا على ما نفتقد، ونعيد تشكيل العالم كما نودّه، لا كما هو. لكن، رغم كل ذلك، لا يمكن تصوّر حياةٍ خالية من التمني، إلا كوابيس من البلادة والجمود، فلو لم نتمنّ، لتوقّف الزمن في دواخلنا، ولتحوّلت أعمارنا إلى تواريخ ميّتة. التمنّي، بهذا المعنى، هو خيطٌ شفافٌ يمتدّ من اللحظة إلى الأبد، من الإنسان إلى ما يتجاوزه. ولعلّ أجمل ما في التمني أنه يُبقينا بشرا، أن نتمَنّى يعني أن فينا شيئًا لم يُروَ، لم يُهدَر، لم يرضخ للخراب، أن نتمَنّى يعني أننا ما زلنا نحبّ، ما زلنا نحيا، ما زال فينا متّسعٌ للضوء وإن ضاقت بنا الأرض. وإن كان التمنّي لا يغيّر العالم، فهو يغيّر طريقة رؤيتنا إياه، وذاك وحده كافٍ لنجاة النفس من العتمة. وهكذا، فإن التمنّي ليس طرفًا من أطراف الحلم، بل جوهر الوجود نفسه، هو بُعدُنا الشعريّ في وجه الصخر، وأملُنا السرّي في صحراء اليقين. ولذلك، حين يتمَنّى الإنسان، فهو لا يطلب شيئًا بعينه، بل يطلب نفسه… كما كان يجب أن يكون. بوراس |
|