الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

مشروع المواطنة ومشروع الشريعة

شريف محمد جابر

مقالة

تاريخ النشر: 2025/07/28
اقرأ للكاتب
استمعت صباح اليوم إلى خطبة جمعة لشيخ من مشايخ الشام ومن أئمة إحدى الجماعات الكبيرة المؤثّرة (جماعة زيد)، وهو الشيخ بلال أسامة الرفاعي، يقول ما مفاده إنّ المشروع السياسي الإسلامي فشل في تحقيق غايته بسبب شدّة العداء والكيد له من دول العالم، ولا بدّ لنا أن نتبنّى أفضل الممكن، وهو مشروع المواطنة الذي يكون فيه "الولاء للوطن" على حدّ تعبيره، والذي ستدخل فيه سورية!
العجيب أنّ الشيخ لم يرَ فشل مشروع المواطنة على مدى قرنٍ كاملٍ، ونجاح مشروع الشريعة على مدى أكثر من ألف عام، وليته قال إنّ كثرة العداء للمشروع الإسلامي لا ينبغي أن تثنينا عنه، ليته استلهم موحيات قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}..
ولكنّه وضع المستمعين بين خيارين: إمّا التطرّف والتشدّد، وقال إنّ أهل الشام لا يحبّون التطرّف بل يحبون الوصول إلى الشيء رويدا رويدا (واضح جدّا طبعا مع ثورة الشام!)، أو الانخراط في مشروع المواطنة إلى أن يأذن الله.. ثم شرع يحكي للحضور في خطبة الجمعة عن جان جاك روسو وتفاصيل مشروعه ورأي الإسلام في أفكاره وفي مفهوم المواطنة.. بدلا من الحديث للناس عن موقف الدين من قضايا الولاء والهوية والاجتماع. ودعا إلى تأسيس هيئة شرعية سياسية قانونية لإعادة دراسة مفهوم المواطنة ولترى هل بالإمكان التوفيق بين الإسلام والمواطنة، وليخرجوا بصورة ترضي الله عز وجل ضمن الممكن على حدّ تعبيره! (وكأنّ المشايخ والقانونيّين والسياسيين لم يكتبوا أطنانا من الصفحات في هذا الموضوع منذ عقود!)
الخطير في الأمر أنّ الشيخ يرى بأننا إذا نجحنا في تطبيق مفهوم المواطنة فإننا نحقق أمرين عظيمين يقصد إليهما الإسلام، أولهما: حقن الدماء وإيقاف الجرح النازف في بلدنا كما قال، وقال أيضا: "ترسيخ مفهوم المواطنة الذي تُوافق عليه الدول الكبرى في بلدنا سيوقف هذا الجرح النازف"!
وكأنّ الإسلام مُقعَد لا تستطيع شريعته تزويدنا بما نحقن به الدماء، أو كأنّ قرنًا كاملًا من الحروب والمذابح الأهلية بعد ولادة الدولة الوطنية العربية ليست كافية لندرك أنها كيان سرطاني غير ملائم لثقافتنا وهويتنا وشريعتنا وأعرافنا! أو كأنّ هذه "الدول الكبرى" سترضى عنّا حين نتبنّى المواطنة بإخلاص ولن تستمرّ في غزونا ثقافيا وفكريا ووجدانيا لصدّنا عن ديننا أكثر وإفشال نهضتنا.. بل الصواب أنّ هذه الدول سعت إلى ترسيخ مفهوم المواطنة لأنّها تدرك أنّه يفرّق هذه الأمة ويساهم في إثارة النعرات بين أهلها ويعجز عن تشكيل محور استقطاب أصيل كما كان الحال مع الإسلام وولائه.
طيب وكيف سنصل إلى المشروع الإسلامي وإقامة الشريعة يا شيخ؟
مع الأسف الشديد، الشيخ الذي بدأ خطبته بالحديث عن تقصير النخب في سورية في تقديم أطروحات ورؤى ناضجة، يختزل الأمر بأنه إلى جانب حقن الدماء، فسيسعى العلماء والمشايخ والمصلحون - بعد تدرّج الدولة إلى الاستقرار - إلى إصلاح الأفراد وإلى إصلاح المجتمع وإلى تقوية الصلة بالله تعالى، ورويدًا رويدًا في هذا الجيل أو بعد جيلنا أو بعد أجيال ستتولّد إن شاء الله سياسات راشدة تقود مجتمعنا! هكذا بكل اختزال وبساطة، لا مشروع ولا رؤية لدى الشيخ.. آمال وأحلام غير واضحة!
المؤسف في هذا كلّه، أنّ هؤلاء الدعاة كان ينبغي أن يكون لهم الدور الأبرز في تأهيل المجتمع المسلم ليحمل شريعته بلا خوف ولا وجل، بدءًا من تصحيح المفاهيم ومحاربة المفاهيم الدخيلة والتربية على مفاهيم الإسلام.. فإذا كان كثيرون يعذرون أهل السياسة في بعض ما يذهبون إليه مضطرّين في أزمنة الاستضعاف (وليسوا معذورين في كلّ شيء)، فأي عُذر لهؤلاء الدعاة أن يتحوّلوا إلى مروّجين للمفاهيم الجاهلية المعيقة التي تفرضها المركزية الغربية؟
كيف أصبح دور الداعية مروّجا لأفكار جان جاك روسو، مادحًا لها (دون أن يحدّد مخالفاتها "القليلة" التي أشار إليها!)، ألم يكن الأولى به أن يستغل لحظات الحرّية ليبثّ في الناس الولاء الإسلامي ودين محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم؟ هل يخشى تأجيج المشاعر وسفك الدماء؟ وهل كانت الشريعة يومًا – كما يعلم ويقرّ – إلّا أحسن نظامٍ في حقن الدماء؟ فلمَ لا يُبشّر بها ويدرسها مع لجان العلماء ويقدّمون الأطروحات التي تدعو إليها؟
لماذا يكون الخيار إمّا التطرّف والتشدّد أو المضي مع ترسيخ مفهوم المواطنة؟ لماذا لا يكون خيارك أنت والدعاة هو الشريعة ثم الشريعة ثم الشريعة على قدر الاستطاعة كما قال تعالى: {فاتّقوا الله ما استطعتم} وكما قال عليه الصلاة والسلام: "ما نَهَيْتُكُمْ عنْه فَاجْتَنِبُوهُ، وَما أَمَرْتُكُمْ به فَافْعَلُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ" (صحيح مسلم). لم يطلب منك أحد أن تطالب بإعلان دولة إسلامية، ولا أن تقيم الخلافة الآن.. أنت مأمور بالدعوة إلى دين الله عزّ وجلّ لا إلى غيره، انتبه، أنت مسلم ولستَ مروّجًا للثقافة الغربية تُلبسها لبوس التوافق مع الدين!
إنّ الناس لا يأتون إلى المسجد ليسمعوا مبادئ روسّو بل ليسمعوا مبادئ محمد صلوات ربّي وسلامه عليه.. الناس متعطّشون إلى من يأخذ بأيديهم إلى هدايات الشريعة ويزيدهم تمسّكًا بها ومطالبة بها وفهمًا لكيفيّاتها وحلولها حين تعالج الواقع، ليصبحوا هم السدّ المنيع ضدّ أي انقلاب على خيار الأمة.. ولا ينتظرون من يزيد من وَهْنهم ويُبعدهم عن مفاهيم دينهم ويُلبّس عليهم الأفكار فيُحسّن المفاهيم الجاهلية في أنظارهم.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  3420