 | المُعلِّم نجيب الحصادي في ذِمَّة اللهالمكّي أحمد المستجير | مقالةتاريخ النشر: 2025/07/04 اقرأ للكاتب |
مُذ بلغني نبأ وفاتِه؛ وأنا عاجزٌ عن الكتابة. أحاول لملمة أفكاري، واِستجماع مشاعري، لأكتبَ نعيًا يليق بمكانة الفقيد الفكريَّة، وبالتجربة الثقافيَّة الرائدة لأحد أبرز منابع التنوير: البروفيسور: نجيب المحجوب عبد الرحمن حسين الحصادي (ذو الحِجَّة 1371 – شهر الله المُحرَّم 1447هـ) (أغسطس 1952 – يوليو 2025م). أعترف سلفًا أنَّ هذه السطور لن تفيَ النجيبَ حقَّه، كيف لا؟ وفقدُه ليس فقدَ واحد، ولكنَّه بنيان مشروع فكريٍّ كبير، وأمل ثقافيٍّ إصلاحيٍّ وقَّاد. على أنِّي أعترف -أيضًا- أنَّ موتَه لم يكن مُفاجئًا! فقد نُعِيَتْ إليَّ نفسُه مُذ كتبَ منشور مرضه، حتى إنِّي صارحتُ بعض المُقرَّبين بهذا الكشف الأليم. قرأتُ له مبكِّرًا، وسنِّي دون العشرين، وكنتُ أجدُ صعوبةً في فكِّ عباراته، وفهم مقاصد كلماته. الصعوبةُ ذاتُها وجدتُها حين قابلته، كان عصيًّا عن التحليل، مُقتِّرًا في التعبير، لا يقول في عبارتين ما يمكنه قوله في واحدة. المرَّة الوحيدةُ التي رأيتُ أستاذنا الجليل من غير أرسان تقيِّده أو دروع تقيه؛ حين قابلته بعد فاجعة (سيل درنة) بأشهر، وعزَّيته في الشاعر المثقَّف "مصطفى الطرابلسي" وكلُّ ما يخطر ببالك من شَجَن حَدَث. شرَّفني النجيبُ بأن جعلني مُشاركًا في بعض مشاريعه الثقافيَّة الإصلاحيَّة في البلاد الليبيَّة، وإن كنتُ أقلَّ من المكانة التي وضعني فيها. وهذا أجبرني على منافسة نفسي، لأكون عند حسن ظنِّه، ولعلَّه تعمَّد ذلك. شرُفت بالعمل تحت إشرافه في مشروع ويكيبيديا العربيَّة؛ وتوجيهه لبحثي عن "المنظومة القِيْميَّة المحليَّة" في المؤتمر الثاني لـمكتبة الملك إدريس الأول، وكان رئيسَه؛ وبالمشاركة في إحدى جلسات الدورة الأخيرة من "مهرجان الأسطى للفكر والفنون" وغير ذلك. وقبل مرضه الأخير، أخبرني أنَّه يفكِّر في ترشيح اسمي في هيأة تحريريَّة لكتابٍ -مكثَّفٍ- عن تاريخ الحياة الثقافيَّة في ليبيا. كان النجيبُ شعلة عملٍ وقَّادة، لا يعرف الفراغُ إلى حياته سبيلا؛ كأنَّه يرى في ركوده مَوَاتا. في تدريب ويكيبيديا بتونس، رأيته يجلس ساعاتٍ في مقهى الفندق وهو يكتب ويترجم، واضعًا رجلًا على أخرى، دون حركة، حتى إذا جاء وقت الصلاة، نادى عليَّ أو على د. أحمد جادالله، ليؤمَّه. لا أغالي إن قلتُ: إنَّ مشاريعه الثقافيَّة في ليبيا، لا تقلُّ مكانة عن مشروعه الفكريِّ في حقلَي المنطق والفلسفة. يعترف النجيب في سيرته الذاتيَّة بثلاثة أرسان: رَسَن الزاهرة (درنة التي أحبَّها، ولا تهدأ روحه إلا بين حناياها، وظلَّ يهفو عمرَه إلى العودة إليها، إذ عاش خارجها أكثر ممَّا عاش فيها) رَسَن الفلسفة (التي كرَّس حياته ومشروعه لها، لا سيَّما فلسفة العلوم، ويُعدُّ أحد أبرز أقطابها المعاصرين بلا نزاع) رَسَن الترجمة (في حقلَي المنطق والفلسفة، رَسَنٌ حاصره في أوقات يومه، وصحوه ونومه). آخر لقاء لي به، قبل أقل من عام، يوم تكريمه بـمجمع اللغة العربية - ليبيا في اليوم العالمي للترجمة. حملتُ معي كتاب سيرته الذاتية (أرسان الروح) وأخبرته أنَّني أفكِّر في كتابة قراءة عنها، فسُرَّ كثيرا، وشجَّعني على التعجيل بذلك، ووددتُ لو أنِّي فعلت. الآن؛ آن للروح أن تتحرَّر من أرسانها، وأن يلتقي (نجيب) بشطره (فهيم) وحنانه (أمُّه) التي مُذ رحلت لم تعرف البهجة إلى مهجته سبيلا. وآن للمحجوب أن يعانق المحبوب؛ فما الجسد إلا سجن، وما الموت إلا انعتاق إلى حياة أكمل. وأوصيكم حالا، بقراءة خاتمة أرسانه "نافذة" لا سيَّما الفِقرة الأخيرة منها. إن جاز وصف 73 عاما من عمر النجيب الحصادي بكلمة؛ فستكون: النبيل، إذ عاش نبيلًا، بشمايله، ووفاقه وخلافه، ومات نبيلًا. وآن لي أن أستعير قول شاعره المفضَّل (شوقي) عن بطله المُقدَّم (المُختار) من القصيدة التي يحفظها، وينشدها مِرارا: سبعونَ لو ركبتْ مناكبَ شاهقٍ لترجَّلت هضباتُهُ إعياءَ إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون المكي أحمد المستجير 08 من شهر الله المُحرَّم لعام 1447هـ |
|
تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته. |
|