الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

الحرية ليست مكانا

محمد بوراس

مقالة

تاريخ النشر: 2025/05/31
اقرأ للكاتب
كان الليل طويلاً بما يكفي لأن أنسى شكلي.
في مكان لا يزوره الضوء، ولا يعبره الزمن، بدأت ملامحي تذوب كما تذوب صور الراحلين من ذاكرة قرية نائية هجرتها السنون. لا مرآة هنا لتؤكد لي أنني ما زلت إياي، سوى هذا الجدار الذي يردد وجعي كأنّه يعرفني ولعلي صدقت ذلك.
منذ دخلت هذه الغرفة التي تنبض برطوبة الماضي، بدأت أرتاب في الزمن. لا تواريخ، فقط صدى الأحذية، ومواسم تُقاس بحرارة الجدران.
هل أخطأت؟ لا أعلم.
الخطأ في هذا المكان ليس فعلًا، بل هو محض وجود. والسجن؟ ليس جدرانًا، بل هو فكرة تجعل من الفراغ سياجًا، ومن المفتاح سيفًا، ومن الحارس إلهاً صغيرًا يُؤمن بأنه يحرس الحقيقة.
ذات مساء، حين خمد أزيز السجناء، سقط شعاع خافت على الأرض. لا أدري إن كان من القمر أم من حلم نجا من المذبحة. اقتربت منه بحذر، كأنني ألمس الزمن نفسه.
وهناك، على الأرض، رأيت ظلي. كان أقلّ مني وزنًا، لكنه أكثر حرية. تمطّى أمامي كقط عجوز، ثم انسلّ من تحت الباب، وذهب.
ظلّي هرب قبلي.
وربما كان هذا درسًا: أن الإنسان لا يحتاج إلى جسد ليكون حرًّا، بل يحتاج فقط إلى أن يتذكّر، أن يتذكّر شكل أمه، واسم حبيبته، وطعم الخبز الحار في صباحٍ متكرر.
في التذكّر تكمن المقاومة، وفي الحلم تبدأ الخيانة الكبرى للجدران.
ربما السجن هو المكان الوحيد الذي لا يكذب، لأنه لا يدّعي شيئًا. لا يعدك بالأمل، لا يمنحك وعدًا بالنجاة. هو صادق كالموت، ساكن كقبر، عادل بعدم عدالته.
لكن رغم ذلك، أكتب.
أكتب على الجدران المتهالكة حكاية رجل لم يمت رغم موته، لم يصرخ رغم وجعه، لم يخن رغم أن الخيانة كانت أقصر الطرق إلى الهواء.
أكتب حتى لا أموت صامتًا، فأنا امتداد لسجين آخر، ووجع ممتد متوارث، لكن الوارث لا يعرف من ورث!
في كل ليلة تمرّ، أفهم شيئًا من الحقيقة التي تُخيف الجميع:
الحرية ليست مكانًا.
إنها موقف.

من زنزانةٍ لم ترحم إلى ذاكرة لا تنسى، وليس ثمة نهزة خيال لم أنتهزها.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيسبوك

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  7237