الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

قراءة في كتاب "الشعر الليبي الحديث" للدكتور عبد الله مليطان

محمد الصادق الخازمي

مقالة

تاريخ النشر: 2025/05/18
اقرأ للكاتب
صدر عن دار الوليد بطرابلس كتاب (الشعر الليبي الحديث -شعريّته وقضاياه واتجاهاته 1957-1967) للدكتور عبد الله مليطان، والكتاب بالأصل أطروحة دكتوراه قدمها لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.
والدكتور عبد الله مليطان صاحب جهد علمي مشهود في خدمة تراث الأمة الليبية، وفي جمْع ما أنتجه أعلامُها من كتاباتٍ إبداعيّةٍ أو تأليفيّة، وأصبحت موسوعاتُه عن الشعراء الليبيين، وكذا المؤلفين، والقصاصين...وغيرهم مراجعَ لا غنى لباحثٍ في تاريخ ليبيا وآدابها وعلمائها عنها؛ إذ هي كتب مفتاحية، ومدونات علمية رصينة، تهدي لموضوعاتها، وتدل عليها بأيسر طريق. والجمع والتيسير من أفضل ما تُخْدَم به العلومُ، ومن أجلّ أسبابِ التصنيف، ومن نظر في كتبه المشار إليها آنفا عَلِم مقدارَ فضلِها، وعظيمَ مكانتها.
وكأني بالدكتور عبد الله في هذا الكتاب -الذي ألّفه على غير حاجة مادية أو فكرية؛ فهو أوانَ تأليفِه قد نال الأستاذية في التاريخ، وقد بلغ به العمرُ مبلغًا يغنيه عن تطلُّب الدرجات العلمية أو الإضافات الشكلية- كأنّي به يُشبع نهمًا علميًّا في نفسه، ويلتفتُ إلى محبّةٍ عميقةٍ للشعر الليبي الذي ألِفَه صغيرًا، وصَحِب فئامًا من أعلام الشعراء المعاصرين والنقّاد المجيدين فارتوى منهم بما انتقوه في مجالسهم من أدب، وأخذ عنهم مسالكه ودقائقه، فالوفاءُ منه لتلك النظرات، وتلك التقويمات النقدية هي دافع البحث الذي أراده أن يكون مختوما بختم الإجادة والتحكيم عبر شهادة الدكتوراه في جامعة مرموقة هي جامعة محمد الخامس بالرباط.
والكتاب -بعدُ- دراسةٌ لها طابعُ التأريخ وطابع الذوق النقدي معًا، فهي تقوم على دراسة فترة المملكة من تاريخ ليبيا، وإن كان الدكتور قد جعل في عنوان الرسالة أنّها تتناول عَشريّةً مختارةً من تاريخ الأمة (1957-1967م) غير أنه لم يستطع أن يثبت سببًا منطقيًّا مقنعًا لهذا العزل، ثم إن هذا العزل أصبح غير ذي معنى عندما أوغل في التخصيص فاختار من بين كلِّ شعراء تلك العشرية رموزًا ثلاثة جعلهم منارًا لاتّجاهات الشعرية الليبية الحديثة، وهم: رفيق، والرقيعي، وعلي صدقي عبد القادر.
وحديث هؤلاء النفر الثلاثة قديمٌ ومعروفٌ، وكلُّ باحثٍ في الأدب الليبي تَكوّن على الكتابات النقدية القديمة سيجد لهم بروزًا ودورًا فيها، ومع أنّ بابَ دَرْسِ أدبِهم لم يُغلَق، ونقد أعمالهم الموجود الآن لا يناسب قيمةَ شعرهم غالبًا، فإنّ الاختيار -برأيي- فيه شيءٌ من الاستسهال، مع الإقرار بالتقدّم لرفيق من بينهم في ريادته للمدرسة التقليدية (الكلاسيكية).
ولا تبدو أسبابُ تحديدِ تاريخ بدء الفترة الزمانية للكتاب مقنعةً، وكذا فترةُ الانتهاء، واختيار الحِقَب أو العقود قد يكون مقبولا لو كان بطريقةٍ نقديّةٍ تعتمد ما أُنشِئ فقط لا ما نُشِر في هذه الفترة بغض النظر عن الظروف المصاحبة من إنشاء جمعيّاتٍ، أو إذاعةٍ، أو كليّةٍ للاقتصاد والتجارة! وكثير من النصوص المشمولة بالبحث كتبت قبل عقودٍ من هذه الفترة، وتأخّر نشرها حتى حينها، فهي غريبةٌ عن روح الفترة ولا تمثّلها، وبالمقابل فهناك نصوص أخرى كتبت زمنَها وتأخّر نشرُها.
وقد نجد لهذه الفترة مبرِّرًا بأنها أعقبت يوم الاستقلال واستوعبت نتائجه، ثم كانت النهاية في لحظات استشراف التغيير القادم الذي حصل في سنة 1969م. وقد يكون الأنسب أن يكون العنوان (فترة الاستقرار الملكي)، فالفترة المختارة تمثل ذروة ذلك.
وشيءٌ لم أدرِ سببَه ولعلّ الدكتور عبد الله أدرى به، وهو ترك ديوان (البلبل والوكر) لإبراهيم الأسطى عمر، وقد صدر عام 1967م، وكان يفترض أنه ضمن فترة الدراسة، وآخر وَدِدتُ لو أنه تلافاه وهو همز (اتجاهاته) في العنوان، وقد وقع لي سهوٌ في ضبط كلمة في عنوان كتاب لي، فأنا أعذر الناس لغيري فيه.
ولو كان لمثلي أن يشير على الدكتور عبد الله لأشرتُ عليه بالبحث الأفقي فهو يناسب خبرتَه العلمية، ويقدّم فيه الإضافة العلميّة والفنيّة معًا كما اعتدنا منه، والبحث الرأسي هنا فيه شيءٌ من مغامرةٍ، والجرأةُ -على كل حال- ليست مذمَّة في البحث العلمي والنقدي، لكنّها تحيل صاحبَها على حسابات النقد، وتحسب عليه بعض الأفكار، وتطالبه بالرؤية التي لا تستسلم لما قَرّره الآخرون، أو نقلوه، أو أفادوا منه في مواضع خاصة، ولهذا تجد الدكتور عبد الله -أحيانًا- ينقل نصوصًا نقديّةً مهمّة؛ بعضُها فيه ما يناقش، وبعضُها فيه ما يُردّ، ثم لا تراه يفعل ذلك، والـمُتوقَّع من المتصدّي للنقد الأدبي أن يعقّب على بعض نقوله، وألّا يقبلها في غير سياقاتها، وأن ينتبه إلى أنّ بعض الباحثين الذين نقل منهم إنما ساقوها في سياقات تخدم فكرةً جزئيّةً في بحوثهم، وأنّ هناك فرقًا بين سياقهم والسياق الذي يقدمه الدكتور عبد الله والسياق الأصلي الذي أراده صاحب النص، ولهذا فالثقة المطلقة بالباحثين والكتاب الكبار من خفايا عيوب البحث العلمي، بسبب سياقاتهم واجتزاءاتهم...وهذا أمر طويل.
فالقول -مثلا- بأنّ عبارة يوسف القويري الذي وصف الشعر بألفاظٍ شاعريّة؛ "سحر الهواجس الليلية، ورائحة العقل الباطن، وظل الأعماق المكتومة" تتناص مع التأويل القديم الذي يربط الشعر بالغيب والسحر، كلامٌ بَعُدتْ فيه النجعة، وهو وإن نقله من ناقد متين؛ فإنّ ذلك لا يعفيه من تقصير النظرة النقدية عنده؛ إذ الناقد لا يستجيب للتشظّي الذي يصيب الأقلام النقدية، ويحتفظ بتأويله الخاص للنص.
ومثل إثبات قول كاتب آخر إن مقال التليسي (هل لدينا شعراء؟) ليس له أهمية أدبية، من غير تعليق يناسب؛ تأييدا أو رفضا، والرفض عندي أقرب للصواب؛ لأنّ لتلك المقالة تداعياتِها، ووجاهةَ أسبابِها.
وتصنيف الشعراء إلى رومانسيين وواقعيين أمرٌ فيه تعميم، والحق أن المدارس النقدية (كلاسيكية- رومانسية- واقعية...) نشأت في أوربا ولم تكن الصورةُ العربيّةُ المنسوبةُ إليها مشابهةً لها تمامًا، بل هو من باب التقريب أو المجاراة لا غير، وقد أشار إلى ذلك غير واحدٍ من النقاد، ومنهم الدكتور محمد غنيمي هلال. ومقامٌ نقديٌّ دقيقٌ لا بد من قوله هنا، وهو أن الأديب قد يتقلّب في حياته الإبداعية بين المدارس، فيبدأ بهذه وينتهي بغيرها، أو يزاوج في نصوصه بين هذه وتلك، فهو عندما يَكتُب لا يكون مستحضرًا لمبادئ المدرسة النقدية، بل قد يكون لم يسمع بها أصلا، فحصرُنا له في قالبها يُخشى منه التعسّف ومجافاة الحقيقة، ثم إنّ الواقعية بمعناها الأوربي لا وجود لها تقريبا في الأدب العربي، وهو أيضا يسمي هذه المدرسة الواقعية تارةً، وفي تارةٍ أخرى يسمّيها الحداثة! وكأن هناك خلطًا بين مظاهرَ للواقعية، وكُنهِها؛ فالربط بين الشكل والمبادئ النقدية غير لازم غالبا، والشكلُ الواحدُ قد يستجيب لمعايير مدرسةٍ مبايِنةٍ، ولذلك قد تجد روحَ التقليديّة في نصٍّ من الشعر الحر، ويظن صاحبُه به أنه يحلّق في أجواء الحداثة، وكثيرًا ما نرى نصوصًا عموديّةً خليليّةً تحقّق الغاية من المقاصد الموضوعية للرومانسية أو الرمزية، وخذ ما شئت من أمثلةٍ جميلةٍ من شعر الأستاذ محمد المزوغي.
ولست ممن يحمّل الدكتور عبد الله تبعات نتائج بحث طويل في الأدب، أو نتائج نقديّة ربما لـمـّا تُعرف حقَّ معرفتِها، لكني وجدت الفرصة سانحة لألفت النظر إلى بعض ما استقرّ في أذهان النقّاد مما هو غير دقيق، ومما يستحق المراجعة النقدية.
وأراني قد ذهب بي الكلام غير مذهب، لكنّي أختم بالقول:
إنّ هذا الكتاب الماتع فيه جمعٌ للنصوص الجادّة ليس من ثمار الأدب وحسب بل من النصوص النقديّة الليبية التي لم تنل حقَّها من الشهرة والذيوع، وفيه جهدٌ استقرائيٌّ كبيرٌ، يؤسِّس للتكوينِ الإحاطِيّ الذي ينبغي أن يطلّ عليه كل دارسٍ للشعر الليبي، وهو إضافةٌ حقيقيّةٌ لدراسة حقبةٍ مميّزةٍ من التاريخ الأدبي جمعت بين التأريخ والنظرة النقدية، أهنئ الدراسات الجادة للمكتبة النقدية الليبية عليه، وأهنئ القراء والباحثين على مفتاحٍ آخر ميسّرٍ للنقد الأدبي في ليبيا، غنيٍّ المصادر، سَلِسِ العبارة، فيه خبرةُ عقودٍ طويلةٍ من التتبع والنظر.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  7528