الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

رزق حسَن على غير احتساب

سعد مصلوح

مقالة

تاريخ النشر: 2024/04/28
اقرأ للكاتب
كانت وفادتي على الكويت من السودان عام ١٩٨٧ قَدَرًا جميلا اختبأ الله لي فيه من الخير ما لم يخطر لي آنذاك ببال. وكان تعرفي إلى عبد اللطيف الخطيب فيها من أخير الخير، وكان رزقا حسنا سيق لي على غير احتساب. في أول يوم من أيام عملي في كلية التربية الأساسية امتلأت عيني برجل رزين الحركة، خفيض الصوت، بالغ الأناقة في غير تكلف، لا يشارك في الحديث إلا إذا اتجه إليه الحديث، ثم إنه إذا تكلم -وقليلا ما يكون- يحوك كلماته على قَدِّ مقصوده لا تنقص ولا تزيد وكأنه يعدها عَدًّا، وينفق منها بحساب دقيق، ثم ينصرف إلى ما بين يديه من أوراق قارئا أو كاتبا، لكنك لا تلبث إذ تستمع إليه أن تدرك ما وراء هذا السمت الرزين من علم جم وعِرْق أصيل ممتد في تراث العربية. سألت عنه فقيل إنه عبد اللطيف الخطيب أستاذ النحو في كلية التربية الأساسية، وكم نازعتني النفس إلى مزيد اقتراب منه لكنه بدا في أولية أمره معي متحفظا في أدب، وقد احترمت ذلك فيه والتمست له المعاذير، وقلت لنفسي: لعل أنباء قد سبقت إليه عن رجل تلقى جانبا من تكوينه العلمي في موسكو، ثم هو بعد محسوب على الحداثيين بحكم الاختصاص، وكل أولئك مما لا يوافق طبعه، فلذا غلب عليه الانقباض المهذب والحرص على المسافة في المعاملة. وما إن استدار العام حتى آنست منه رويدا من الودادة ولطف الحديث ومزج النفس بالنفس ما كنت على يقينٍ وأكَادَةٍ بأنه سيكون. ووجدته -حين وَلِيَ رئاسة القسم- يطلب إلي أن أكون عونا له في حمل التبعة فلم أملك لرغبته ردا على كراهة مني لكل ما يمت إلى العمل الإداري بِمَاتّة قريبة أو بعيدة، ثم زاد فطلب إليَّ أن أقدم لسِفْره المعجز الذي سماه "معجم القراءا" فنشطتُ لذلك وفعلت، وسعدت بما كان، إذ أقنعه ما كتبت أن بيني وبين التراث بحمد الله عروة وثقى لا انفصام لها، وأن تلقي العلم في بلاد السوفييت لم يفسد عليّ أمري .وما زالت بنا الأيام حتى أقامتنا معا ، وأقعدتنا معا ، وطحنتنا برحاها معا، وناءت علينا بكلكلها معا ، ثم جمعتنا في أشرف الأوقات على إنجاز ما يسرنا الله له من مصنفات العلم معا، ثم توجت خدمتنا العلم بعمل ناصب دام ست عشرة سنة في عمل كتاب "التفصيل في إعراب آيات التنزيل"، وأكرِمْ به من صنيع نرجو به خير ما عند الله من الثواب.
ولعل أوثق ما وشج بيننا تشابه النشأة ، فكما نشأت في كنف أب مشبل حازم ، حبب إلي العربية وزين لي أن أكون لها خادما ، كذلك كان أخي، فوالده الأزهري الشيخ محمد الخطيب -رحمه الله وفسح له ولأبي في جنات النعيم- أخذه بحفظ المتون، وأقرأه نفائس المكتبة النحوية وهو بعد في غضارة الصبا وليونة الحداثة ، ونذره لخدمة العلم طالبا ومعلما وباحثا ، وهكذا بلغت بي وبه الأيام مجمع البحرين وكانت العاقبة خيرا محضا بحمد الله .
أما فضل الخطيب عليَّ فإني أعدُّ منه ولا أعدده؛ لقد خبرت منه أخ الصدق والجليس الصالح، وآنست فيه من الوجهة الإنسانية خير أسوة وقدوة؛ وأشهد أني ما لقيت حياتي أبر من هذا الرجل بأبويه، وأشهد أيضا أن له فضل المبادرة والمثابرة في كل عمل علمي جمع بيننا؛ ذلك أني -معترفا بعيب نفسي لمن لا يعرفني- كثير التنقل من عمل إلي عمل ومن فن إلى فن، مؤثر أبدا للقراءة على التصنيف، مولع بارتياد المجاهيل. لا أبالي إذا أضمرتني المتاهة أنّٓى أعود، وما كان لمثلي أن ينجز شيئا مما نَجِزَ إلا بفضلٍ من هذا الصديق. لقد حملني على الأوعار، وصابرني صِبَارًا شديدا، فكفكف من جموحي، وطامن مما عهدته عندي من إيثار لطواف دائب لا يطيق القرار، فكتب الله لي وللعلم كل الخير على يديه.
حقا، لقد كانت رفقة هذا الصديق الكريم كنفا أستذري به - ولا أزال- من صقيع الحوادث، ورزقا حسنًا ساقه الله لي على غير احتساب.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  9411