| ماذا يأخذ الطوفان؟محمد خليل الزَّرُّوق | مقالةتاريخ النشر: 2024/02/29 اقرأ للكاتب |
لم يشهد هذا الجيل من المسلمين حرب إفناء ممنهجة بشعة في عصر "المشهدية" كالذي وقع في غزة وما جاورها ما بين أواخر سنة 2023 وأوائل سنة 2024م، وقد دخلنا حين كتابة هذا الكلام الشهر الرابع من الحرب، وما زالت الوقائع متفاعلة متدحرجة، وهي مفضية إلى خير إن شاء الله، وإن لم يكن أحد يدري كيف يكون ذلك على وجه التفصيل.
أقول: كان ذلك في عصر ";المشهدية" إذ تكون الأحداث بالصوت والصورة تُرى وقت وقوعها، وفي يد جُلِّ الناس أجهزة يرون فيها ذلك، ولهم قدرة على تسجيل الواقع وبثه، ولم يَحُل ذلك دون وقوع الجرائم والفظائع، على أنه كان يُظن قبل عشرات قليلة من السنين أن علم الجمهور بالحدث ربما أحرج الفاعلين أو فضحهم أو سلَّط عليهم من إنكار الناس وكراهيتهم أو ثورتهم ما يضرُّ بهم أو يحوِّلهم عن مواقعهم ووظائفهم.
وما زال المجرمون مع كل هذا يجرمون ولهم من الصفاقة والقِحة ما يسوِّغون به الكوارث، أو ينكرون به الحقائق الماثلة لكل مشاهد حتى كأن كل الناس معاين. ولا يزال تبقى أحداث ووثائق طي الكتمان إما لتحقيق إتمامها، وإما لتجنب حرج لو وقع ما غيَّر من الأمر شيئًا، ولكن تجنبه تخفيف مفيد من حِمْل ثقيل على كل حال، يقتضيه ادعاء الخيرية والفضيلة، إذ يدعيها كل ظالم وكل مجرم.
قد كان يُظن في أول الأيام أن غضب المسلمين في أقطارهم شرقًا وغربًا سيكون زلزالًا يرجف بالأرجاء، حتى إنه جرت أحداث منسَّقة من قبيل المؤتمرات والبيانات والتبرعات لتخفيف غضبة الناس وتسكين ثورتهم، ولكن طالت الأزمة، وثقلت المحنة، واشتدت الكربة، ومال غالب الناس إلى المتابعة الساكنة، كأن الأمر لا يعنيهم، وكأن قصارى التكليف أن ينكروا بعض الإنكار بألسنتهم أو بأقلامهم، أو أن يدْعوا الله بالنصر للمظلومين، والبطش بالظالمين، في مجامعهم أو خلواتهم، وأن يرسلوا شيئًا من الأموال والمعونة لا يصل أكثرها، وإن وصل كان بطيئًا قليلًا، حتى رثى للغزيين اليهود والنصارى في أوربة وأمريكا، بما بقي في نفوس الناس من الفطرة، إذ قد جبل الإنسان على حب العدل وكراهية الظلم، فكان خروج الناس لإنكار ذلك أكبر من خروجهم في بلداننا، فلم نر في بلداننا مئات الألوف يخرجون في مسيرات مستنكرين كما رأيناهم في أوربة وأمريكا خارجين، إلا في اليمن، مع أن ألمنا كان يجب أن يكون أشد، وإنكارنا أكبر، وخروجنا أكثر، لأن واجبنا أثقل، وحقهم علينا أوكد، فهم منا ونحن منهم، ونحن جسد واحد كما نردِّد بألسنتا، وكما هو مقتضى أحكام ديننا، ووصايا رسولنا ﷺ.
ولكن العجز الذي نحن فيه بلغ مبلغًا لا مثيل له في التاريخ القريب ولا البعيد فيما أظن، مع كل العلم بالوقائع، ووجود أسباب إثارة الحميَّة والنخوة، بمرور مشاهد التقتيل والتشريد والتجويع والتدمير صباحًا ومساءً، وليلًا ونهارًا، وفي كل دقيقة خبر، وفي كل ساعة نشرة، وفي كل حين تقرير ومشهد وموقف، حتى كأننا في غير وعينا، أو أننا في حالة تخدير أو تنويم، وأظن أن القوم رأوا أن فينا فرصة للتعويد والاستكانة، فهم يروننا نرسُف في الأغلال لا قدرة لنا على الحركة والكلام فضلًا عن الفعل والانتقام.
فإنه قد حاولوا قبل الطوفان إقناع المستغفلين أن هذا العهد وهذا النظام للعالم الذي يقوم عليه الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بعد الحربين في أوائل القرن وتقاسمهم الأرض وإنشائهم لحكومة العالم المسماة "مجلس الأمن" - هو عهد "حقوق الإنسان" و"الديمقراطية" و"الحريات" و"الإنسانية" و"حقوق المرأة" و"حقوق الطفل" و"حقوق الحيوان" –وكادوا يقولون: "حقوق الحشرات" من كثرة ما سمعنا عن الحقوق– و"حماية البيئة" و"تقرير المصير" و"الإعلام الحر" ... إلخ، وقد سمعت أحد القائمين على ترويج ذلك بأموال المسلمين يقول تعليقًا على هذه الحرب في أوائلها: "قد حدث ضرر كبير للقيم الكونية، ولا أدري متى يجري ترميمه"!
وها نحن أولاء نرى أن النظام الدولي وما يتبعه من أنظمة إقليمية مغلقة مسدودة ليس فيها منفذ أو انفراج أو قدرة على وقف الظلم الصارخ والإبادة لمئات الألوف من المسلمين محاصرين من كل الجهات يُقطع عنهم الماء والغذاء والدواء والكهرباء، ولو استطاعوا لقطعوا الهواء، ثم تنزل عليهم حمم النار من فوق لتهلك الحرث والنسل وتدمر البيوت والمستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والمقرَّات التابعة لما يسمى "الأمم المتحدة"، أي بأفعال لا يقرها نظامهم الدولي المعلن، حتى لو سلمنا بأن الهجوم على العدو في الأراضي المغتصبة لا مسوغ له، أي إن هذه الأفعال مجرَّمة بنظامهم وقانونهم الدولي المزعوم -لأنه إذا اختطف مجرمون طائرة لا يقول أحد: إنه يجوز تفجيرها بمن فيها- فهذه الأفعال أنكرها وغضب لها مئات الألوف في أوربة وأمريكا، وقامت حكومة في أقاصي أفريقيا تقاضي عدونا عنا في محكمة تُزعم للعدل تابعة لمنظمة الأمم بتهمة توصف بـ "الإبادة الجماعية"، أي القصد إلى إفناء فئة من الناس، لا لهزيمتها في حرب.
لا نقول: إن الطوفان يجب أن يأخذ كيان العدو اليوم أو غدًا، وهو ما نأمله وننتظره، وهو واقع قريبًا إن شاء الله، لأن الأفعال غير المسبوقة في سياقها يجب أن تؤدي إلى نتائج غير مسبوقة، ولأسباب كثيرة يطول شرحها، ليس أقلها التهديد للوجود الذي شعر به أهل الكيان الغاصب، ولم يذوقوه منذ أكثر من سبعين سنة، فقدوا به الأمن والثقة بأجهزتهم وجيوشهم وقادتهم، وفرَّق جمعهم وجعلهم متحيرين يتلاومون، فجاءهم المدد وقادة الغرب: إنا معكم، وهذه الأموال وهذه الأسلحة وهذا تأييدنا لكم في كل محفل، فهل ينجبر الكسر لما هو مختلق من أصله، معتسف في أساسه، قائم على إلغاء حق، وإثبات باطل، وتهجير شعب، وتوطين آخر في أرضه، مما هو مصادم لطبائع الأمور؟
على أن هؤلاء المظلومين مسلمون من أمة لها إيمانها وعزتها وأنفتها وإن ضعفت اليوم وتفرقت، فالحدث نفسه يدل على أن روحها باق، وأن طول الزمن، وكثرة المكر والأموال والعتاد لا يقلب الحق باطلًا، ولا الباطل حقًّا، ولا يفني أمة، ولا يطفئ شعلة متوهجة من مجاهَدة، أو طليعة متقدمة من مقاومة، صَنعت بأيديها سلاحها، وحفرت أنفاقها، ونكَّلت بالعدو الذي يفوقها في كل شيء في الموازين الحسية الدنيوية، إلا في الإيمان بالله والدار الآخرة، فقتلت من جنده الألوف، وألقت بألوف آخرين في مستشفيات المعوقين أو مصحات المجانين، وأتلفت المئات من مدرعاته ومجنزراته ومُعَدَّاته. وذلك بمقاييس إنسان اليوم معجزة بهرت المتابعين المستقلين، ليس بالقدرة على إنجاز كل ذلك في هذه الأحوال فحسب، بل بالصبر والمصابرة والعزة والثبات، مما يعز وجوده في غير هذه الأمة، وبغير هذه الرسالة، وليس ذلك بإثارة إعجابهم فحسب، بل بالبحث في شأن دين هؤلاء الذي صنع منهم وبهم هذه المعجزات، فدخل الألوف في الإسلام، منهم 17 ألفًا في فرنسا وحدها منذ بدء الحدث حتى اليوم.
أقول: يجب أن يأخذ الطوفان المعاني البالية في نفوسنا، من تصديق خزعبلات الوضع القائم الملهية عن الحقوق الثابتة في شرعنا لنا، والصارفة لأنظارنا عن مساوئ هذا النظام الدولي القائم بكل توابعه الإقليمية والمحلية الممكِّنة له والمثبِّتة له، فإن المهزومين لا يُهزمون من قلة في العَدد ولا في العُدد، مع أنه لنا العدد والعدد، بل تهزم النفوس الخوَّارة، والعقول الجاهلة، والنفوس الممسوخة، التي تُشغل عن نفسها بترهات من ملذات زائلة، ومُتَع مضمحلَّة، لا تؤدي إلا إلى المذلة والعقوبة، وتُشغل أيضًا بالمعاني المميتة للهوية المستتبعة لنا كالغثاء الخفيف الطافي المتفرق، لا ثبات له ولا وزن ولا تماسك.
إن لم يأخذ الطوفان بكل آثاره التي هزت العدو، وكشفت للناس عاره وعواره، وفضحت المنافقين منا المشاركين في الحصار والكيد والحملة الإعلامية والسياسية، وعرَّت سوأة "القيم الكونية"، واستجهلت النظام الدولي، فخرج عن طوره ووقاره، وأعادت القضية إلى صدارة النظر والبحث، فملأت الدنيا وشغلت الناس، وقطعت طريق التطبيع المعلن مع العدو إلى أجل غير مسمى أو إلى غير أجل، ثم التي جرَّت من الكوارث والنكبات على أهلنا المرابطين الصابرين المصابرين ما نعلم – أقول إن لم يأخذ الطوفان من نفوسنا معاني، ويعط غيرها، ويذهب بأفكار ويأت بغيرها، ويغير نظرتنا إلى الأمور، فقل لي بربك: متى يكون ذلك؟ متى يكون؟
8 رجب 1445هـ = 20/1/2024م |
|
|
الله يبارك فيكم احسنت ...فرصة امتنا في تغيير كل مااستقر خطأ والعودة الى شريعتنا الغراء في الحقوق سلما وحربا |
|