الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

الإشمام في الفعل الأجوف المبني للمفعول

محمد خليل الزَّرُّوق

بحث

تاريخ النشر: 2023/09/16
اقرأ للكاتب
بسم الله الرحمن الرحيم

أشمَّ ﴿قِيلَ﴾ و﴿غيض﴾ و﴿جيء﴾ و﴿حيل﴾ و﴿سيق﴾ و﴿سيء﴾ و﴿سيئت﴾ الكسائي وهشام ورُوَيس، وافقهم ابن ذكوان في الأربع الأخيرات، والمدنيان في الأخيرتين، والباقون أخلصوا الكسر (نشر القراءات العشر = سويد، فقرة 2629).

كنت في مسألة إشمام أول ﴿سِيء﴾ و﴿سِيئت﴾ لنافع -ومثلُه إشمام غيرهما من الأفعال الجُوف عن غيره من القراء- قد ذكرتُ في كتاب "أصول رواية قالون" في الطبعة الثانية منه الصادرة عن دار الساقية في بنغازي في صيف سنة 2007م (ص 78)، فما بعدها من طبعات - قولَ الإمام الداني في كُتُبه مما وَقَفْتُ عليه فيها -ومنه "جامع البيان" في أصله المحفوظ في مكتبة "نور عثمانية" برقم 62، ذلك أنه لم ينشر إلا سنة 2007م- ومما نقله من كتبه الـمِنْتُوري في شرحه على "الدرر اللوامع"، وقولُه هو: أن إشمام الضم يكون لأول الفعل وللياء بعده، كما أن الإمالة للحرف المفتوح وللألف بعده، وأن الحركة مركبة ممزوجة، ليس فيها تقدم لجزء على جزء، وعضَّدته بما قاله ابن جني في سر الصناعة (1/52-53)، والرضي في شرح الكافية (4/31) وابن أبي الربيع في البسيط في شرح الجمل (958)، واستبعدت ما يقوله المتأخرون من المصنفين في علوم القراءة من أن "جزء الضمة مقدم، وهو الأقل، ويليه جزء الكسرة وهو الأكثر، ولذلك تمحَّضت الياء"، أي كانت خالصة، وما كنت وقفت عليه من ذلك يومئذ كلام السفاقسي في غيث النفع (83)، والمارغني في النجوم الطوالع (193) والضباع في الإضاءة (63).

غير أني توقفت في جعل القَيْجَاطي شيخ المنتوري المسألة خلافًا بين النحويين، وأن إشمام الياء الواو مذهب سيبويه والفراء، وأن الياء المحضة بعد إشمام الحرف الأول مذهب الأخفش، وقلت: إني لم أجد ذلك الخلاف منسوبًا في مراجعي، وكنت أشير إلى أن الرضي قد ذكر هذا الخلاف، ولكن قال في القول الذي رجَّحتُه: "هذا هو مراد القراء والنحاة بالإشمام في هذا الموضع"، وقال في القول الآخر: "وقال بعضهم"، فجعل الخلاف بين الجمهور وقلة لم يسمِّها.

ثم وقفني الشيخ عبد المهيمن بالحاج على كلام لابن أم قاسم في شرح الألفية، ذكر فيه الوجهين، ورجَّح ما يقوله المتأخرون، فدعاني هذا إلى أن أعيد النظر في المسألة وأن أتتبع أقوال المصنفين في العربية والقراءات فيها لأقف على حقيقة هذا الخلاف ومأتاه.

ولا يخفى أن القدماء يتجوَّزون في التعبير، ويُوجِزون في مواضع، ويبسطون العبارة في مواضع، ويقلِّبون شرح المعنى على وجوهه، فربما جاء من بعدهم وفهم من بعض كلامهم ما لم يقصدوه، وحمَّله ما لا يحتمل، إذ لم يكن الاصطلاح قد استقر عندهم كما استقر من بعد، وكثيرًا ما لا يحيط المؤلفون بنصوص المسألة، ويتابع بعضهم بعضًا بغير معرفة بأصل ما يُنقل من أين جاء؟ وكيف جاء؟

وكان سيبويه عبَّر بالإشمام منسوبًا إلى الفعل كله، قال: "وبعض العرب يقول: خِيف وبِيع وقِيل، فيُشِمُّ إرادة أن يبين أنها فُعِل" (كتاب سيبويه = بولاق 2/360)، وبعد هذا بقليل لـمَّا ذكر هذا الفعل مسنَدًا إلى ضمير رفع متحرك، فتحذف الياء لذلك، عَبَّر بالضم والإمالة منسوبين إلى فاء الفعل، نحو: بِعْنا، قال: "وأما من ضم بإشمامٍ إذا قال فُعِل فإنه يقول: قد بعنا وقد رعن وقد زدت، وكذلك جميع هذا، يُـميل الفاء ليُعلم أن الياء قد حذفت، فيَضُمُّ [كأنه: فضَمَّ] وأمال كما ضموا وبعدها الياء" (2/361)، وقول سيبويه: "كما ضموا وبعدها الياء" لا دليل فيه على أن الياء محضة في الإشمام، وهو كتعبير الأخفش الآتي في إحدى المرتين، فهذه طريقة الأوائل في التعبير، يتجوَّزون ويبسطون العبارة إرادة البيان، أو يوجزون، كما قال ابن كيسان للكِتَاب: "أُلِّف في زمن كان أهله يألفون هذه الألفاظ"، وقال الأخفش الأصغر: "عمل سيبويه كتابه على لغة العرب وخطبها وبلاغتها، فجعل فيه شيئًا مشروحًا، وجعل فيه مشتبهًا" (حواشي كتاب سيبويه 1/24-25).

وتعبير المازني (-249) في الفعل بغير ضمير كتعبير سيبويه في الفعل مع الضمير، ذكر أول الفعل، قال: "وبعض العرب يُشِمُّ موضع الفاء الضمةَ إرادة أن يبين أنها فُعِلَ، فيقول: خيف، وبيع، وقيل، وهذا إشمام وليس بالضم الخالص، لأنه ممال" (المنصف 248-249)، فعبَّر أيضًا بالإمالة.

وأقدم من وجدته عبَّر بالرَّوْم في هذا الزجاج (٢٤١-٣١١)، ونسبه إلى أول الفعل، قال: "وبعضهم يروم الضمة في قيل... تروم في سائر أوائل ما لم يسم فاعله الضمَّ في هذا الباب" (معاني القرآن للزجاج 1/87).

وكان الأخفش (-215) أقدم من وجدته عبَّر بضم الأول، قال: "فمنهم ‌من ‌يضم ‌أوله لأنه في معنى فُعِل، فيريد أن يترك أولَه مضمومًا ليدل على معناه" (معاني القرآن للأخفش 43)، ثم قال في لغة إخلاص الكسر: "لأن الياء الساكنة لا تكون بعد حرف مضموم"، وقاله أيضًا في لغة إخلاص الضم (ص 44)، لكنه عاد في موضع آخر وقال: "لأن الياء تكون بعد الضم في قيل" (ص 50)، ولا تناقض بين القولين، فالياء الخالصة لا تكون بعد الضم الخالص، وتكون الياء غير الخالصة بعد الضم غير الخالص، أي في حال الإشمام، ولا يتحتم أن يكون مراده أنها خالصة بعد إشمام الأول.

وأقدم من وجدته نسب إلى الأخفش قولًا في ذلك يشعر بأنه يخالف سائر النحويين - ابن النحاس (-338)، قال: "قال الأخفش: ويجوز قيل ‌بضم ‌القاف ‌وبالياء، ومذهب الكسائي إشمام القاف الضم" (إعراب القرآن لابن النحاس 1/188)، وكأن هذا فهمٌ للعبارة الثانية للأخفش التي قال فيها: "لأن الياء تكون بعد الضم في قيل"، ولم يفسر ابن النحاس هذا، على أن العبارة في تفسير القرطبي (٦٠٠-٦٧١) جاءت بإسقاط الباء، هكذا: "قال الأخفش: ويجوز قيل ‌بضم ‌القاف ‌والياء، وقال الكسائي ويجوز إشمام القاف الضم" (الجامع لأحكام القرآن 1/201)، ومراد ابن النحاس بما نسبه إلى الكسائي أنه يقرأ كذلك، لا أنه قول له، فانظر كيف تحرَّف الكلام في نقل القرطبي!

وهذه العبارة عند السمين (-756) كما هي في تفسير القرطبي، غير أنه زاد بأن فسَّر كلام الأخفش، قال: "وقال الأخفش: ويجوز قيل ‌بضم ‌القاف ‌والياء، يعني مع الياء لا أن الياء تُضم أيضًا" (الدر المصون 1/134)، ولا أدري أخذ السمين من ابن النحاس أم أخذ من القرطبي؟ أوَأراد بتفسيره أن يحمل قول الأخفش على مذهب من يرى تمحُّض الياء أم لم يرد ذلك؟

ونَقَلَ قَبْلَ ذلك عبارةَ ابن النحاس مكيٌّ (٣٥٥-٤٣٧) وحكم على القول الذي يفهم منها بالشذوذ، غير أنه قدَّم وأخَّر في اللفظ الذي حكاه ابن النحاس، قال: "وأجاز ‌الأخفش ‌قيل بالياء وضم ‌القاف، وهذا شاذ لا قياس له" (مشكل إعراب القرآن 1/78). وسيأتي ما لمكي من رأي في المسألة.

وأول من وجدته ذكر صريحًا أن الإشمام يشمل أول الفعل والياء بعده ابن جني (-392)، قال: "وأما الكسرة المشوبة بالضمة فنحو ‌قيل ‌وبيع وغيض وسيق، وكما أن الحركة قبل هذه الياء مشوبة بالضمة، فالياء بعدها مشوبة بروائح الواو، على ما تقدم في الألف" (سر الصناعة 1/52-53).

لكنه عاد وذكر نقيض هذا القول في ما كتبه على الحماسة، قال: "وأما الياء في ادْعِينا وقيل وبيع فإنها وإن شيبت الحركة قبلها - خالصةٌ البتة وغير مشوبة شَوْب ما قبلها"، وفرَّق بين الألف الممالة والياء المشوبة بالضم، فقال: "وجاز ذلك فيها من حيث كانت الطاقة حاملة والقدرة ناهضة بالنطق بالياء الساكنة بعد الضمة الناصعة فكيف بها بعد الكسرة التي انماعت [الأصل: إنما اعتلت] بأن انتُحي بها نحو الضمة، والعمل في ذلك خَلْسٌ خَفِيٌّ، وأما الألف الخالصة فليس في الطوق أن يُنطق بها بعد غير الفتحة الخالصة" (التنبيه على شرح مشكلات الحماسة 60).

وهذا غريب منه، وما حمله على ذلك فيما أظن إلا أن الكلمة -وهي ادعينا- جاءت في قافية، في قول الحماسي:
وإن دعوتِ إلى جُلَّى ومكرمة * يومًا سَراة كرام الناس فادعينا
فكأنه أراد أن تكون موافقة لأخواتها، مع عدم ذكر المتقدمين للياء المشمة في القوافي، وإذ قد احتَملت العرب الجمع بين الياء والواو الخالصة في الرِّدْف، فأن يحتملوا الجمع بين الياء الخالصة والياء المشمة واوًا أولى وأقرب. وهو وإن كان كلامه على الحركة قبل الردف، فإن ما ذكره فيها يدل على داعيته إلى قول ما قال في الياء بعدها، قال: "وأما من رواه فادعينا بإشمام الضم، ففيه السؤال، فذلك أن الحركة قبل الردف هي التي يقال لها الحَذْو، ولم تأت عنهم مُشَمَّة ولا مشوبة، وإنما إحدى الحركات مخلَصة البتة، ولم يذكر الخليل ولا أبو الحسن [أي الأخفش] ولا أبو عمرو ولا واحد من أصحابنا حال هذه الحركة المشوبة كيف اجتماعها مع غيرها، فدل ذلك على أن الحركة في نحو هذا ينبغي أن تكون مخلصة" (التنبيه على شرح مشكلات الحماسة 59).

ثم أخذ في تسويغ مجيء هذه الحركة مشوبة، وما قاله فيها يجري على الياء بعدها، كما بينت. على أن ابن جني أيَّد قول سيبويه وضعف قول الأخفش في مسألة إمالة الواو نحو الياء في نحو: "مذعور"، كما سيأتي، إن شاء الله.

وجاء مكي (٣٥٥-٤٣٧) بقول غريب لم يُسبق إليه ولم يُوافَق عليه، فجوَّز أن يكون الإشمام في نحو هذا مع الحرف وقبله، وكأنه فهم أن الإشمام هنا إشمامُ إشارةٍ بالشفتين كالذي في الوقف، وكالذي في نحو: ﴿تأمنا﴾، ورجح الإشمام قبل الحرف فيما لم يسبقه شيء، نحو: ﴿سيء﴾، والإشمام مع الحرف فيما سبقه شيء، نحو: ﴿وحيل﴾ ﴿وقيل﴾، يريد سبق الواو، قال: "والإشمام في حال اللفظ بالحرف في المتصل أحسن، نحو: ﴿وحيل﴾ ﴿وقيل﴾، فإن كان منفصلًا حسُن الإشمام قبله، نحو: ﴿سيء﴾ و﴿سيئت﴾ وشبهه، وجاز معه، ومعه أحسن وأبين" (التبصرة 418-419).

ونقل المنتوري عنه في كتابه "التنبيه" أنه قرأ بذلك، قال: "فقد قرأت به لهم قبل السين ومعها، ومع السين أقيس وأشهر" (شرح الدرر اللوامع للمنتوري 794).

وقرر في موضع آخر من كتبه أن هذا الإشمام -وسماه إشارة- يُسمع ويُرى، وأن الحرف الأول مكسور تخالطه إشارة إلى الضم، وشبَّه ذلك بالألف الممالة، وهو يفيد أن ما بعد الحرف الأول مُشَمٌّ أيضًا، وقال: "وليس الحرف الأول من الأفعال بمضموم، إنما هو مكسور يخالط كسرته شيء من ضم يُسمع... [و] لو كانت مضمومة أو الضم أغلب عليها لانقلبت الياءات واوات، إذ ليس في كلام العرب ياء ساكنة قبلها ضمة" (الكشف عن وجوه القراءات 1/231-232). ويكون مكي بهذا البيان لا يخالف الداني في حقيقة هذا الإشمام، إلا في تجويزه أن يكون الإشمام قبل الحرف.

وأشفى كلام في ذلك وأبينُه كان للإمام الداني (٣٧١-444)، وصرَّح بردِّ ما سوى ما شرحه من وصف لهذا الإشمام، وهذا يدل على وقوع الإشكال فيه، والخلاف في حقيقته وأدائه، لدى القراء من لدن ذلك الزمن، قال: "وحقيقة ‌الإشمام في هذه الحروف أن يُنْحَى بكسر أوائلها نحو الضمة يسيرًا دلالة على الضم الخالص قبل أن تُعَلَّ كما ينحى بفتحة الحرف الممال نحو الكسرة قليلًا إذا أراد ذلك... وما عدا ذلك في حقيقته فباطل" (جامع البيان 840).

واكتفى في "جامع البيان" بذلك ولم يفصِّل، ومثله في "التحديد"، وقال: "وهذا الذي لا يجوز غيره عند العلماء من القراء والنحويين" (التحديد 97)، وهذا يفيد أن الأمر عنده دائر بين خطأ وصواب، وليس خلافًا في الرأي أو الرواية، ولا مردَّدًا بين مذهبين أو طريقتين جائزتين.

وزاد المسألة توضيحًا وتفصيلًا في كتبه الأخرى، وأصرح قول له كان في "إيجاز البيان"، ثم فيما نقله عنه السخاوي، فيما يأتي بعد، قال: "وإذا نُحِيَ بالكسرة نحو الضمة في ذلك أُتْبِعَت الياء الساكنة بعدها ذلك، فنُحِيَ بها نحو الواو، كما يتبع الألف من ﴿هار﴾ عند الإمالة فتحة الهاء فينحى بها نحو الياء، وكذلك الألف بعد اللام في ﴿الصلاة﴾ وشبهه، إذا نُحي بالفتحة قبلها نحو الضمة نُحِي بها هي نحو الواو إتْباعًا لما قبلها من الحركة المشمة، ولذلك كُتبت واوًا على هذه اللغة، فما دخل الحرف الـمُشَمَّ من الشَّوْب والانتحاء، دخل على الياء والألف بعده" (شرح الدرر للمنتوري 790).

وبعدما بيَّن أن الياء بعد الحرف الأول مُشَمَّة ومنحوٌّ بها نحو الواو بيَّن أن هذه الحركة حركة واحدة مركبة مخلوطة من حركتين كسرة وضمة، والياء المشمة لفظها ممزوج من ياء وواو، وكأنه يشير بهذا إلى أنه لا تقدم لأحد النوعين على صاحبه، وأنه ليس إشارة إلى الضم، بل نوع مركَّب من الحركات، وأن هذا هو قول المحققين من النحويين والقراء، وهذا تعريض بمن خالف هذا بأنه ليس من أهل التحقيق، قال: "واعلم أن حركة الحرف المشم ضمًّا عند أهل التحقيق والتحصيل من النحويين - حركة بين حركتين، بين الضمة والكسرة... وكذا عندهم الفتحة الممالة حركة بين حركتين بين الفتحة والكسرة، وكذلك الألف الممالة حرف بين حرفين، بين الألف والياء" (شرح الدرر للمنتوري 790).

ثم أبطل الداني قولين في حكاية كيفية الإشمام: أحدهما أن الكسرة في الحرف الأول محضة ثم يشار إلى الضمة بالشفتين، والآخر أن الإشارة قبل اللفظ بالحرف الأول، وأحدُ هذين الوجهين جوَّزه مكي بن أبي طالب، إذ جوز أن تكون الإشارة قبل الحرف، وأن تكون معه، كما سلف. قال الداني: "فأما من قال: إن السين تكسر كسرة محضة، ثم يشار إلى الإشمام بالشفتين بعد الإتيان بتلك الكسرة - فذلك غير جائز، إذ كان الإشمام لا يؤتى به إلا بعد إسكان الحرف المشم حركته، لا بعد تحريكه ولا معه، إذ لو كان ذلك لحصل للحرف شيئان: حركة وإشارة، وتلك الإشارة تؤدي عن حركة أخرى، ولا يستعمل للنطق به عضوان اللسان والشفتان، هذا ما لا يعقل، ولا يطوع اللسان بالنطق بذلك" (شرح الدرر للمنتوري 791).

وهو هنا ينفي أن يكون إشمام الفعل الأجوف المبني للمفعول كإشمام الساكن في الوقف أو إشمام الساكن في الوصل، فذلك إشارة بعد الإسكان، وهذا حركة مركبة، ولا يكون تحريك وإشارة في وقت واحد. وقال في رد القول الآخر: "وكذلك من قال: إن الإشارة قبل اللفظ بالسين، فذلك غير جائز أيضًا، لأنه لا يشار إلى حركة حرف لم يلفظ به"، وقال منكِرًا فساد هذا القول متعوذًا بالله مما أدى إليه: "وهذا ما لم يُسمع بمثله قط، ولا حكاه حاكٍ، ولا سُطِّر في كتاب، نعوذ بالله من جهل يؤدي إلى القول بمثل هذا" (شرح الدرر للمنتوري 791). وهذا هو قول مكي، كما سلف، ولا يخفى إنكاره هنا أن يكون ذلك مرويًّا في تلاوة، أو منصوصًا في كتاب، أي هو تصور عقلي محض، لم ينقل عن سلف في لغة أو قراءة.

وبيَّن الإمام أن عبارات النحويين والقراء في هذه الحالة اختلفت بين الضم والرفع والرَّوْم والإشمام والإمالة، وكلها عنده تدل على شيء واحد هو ما شرحه وبينه، ورد ما سواه وأبطله، وفسَّر مأتى التسمية في كل نوع من هذا التعبير والاصطلاح، فالضم والرفع يستعمله عامة أئمة القراء من المصنفين، كما عبَّروا عن الإمالة بالكسر، والإشمامُ يقوله عامة النحويين وطوائف من القراء المتأخرين، يريدون بيان الشَّوْب الذي فيه وأن الحركة غير خالصة، والرَّوْم عبَّر به غير واحد من رؤساء النحويين، لأنه محاولة للشيء من غير أن يوصَل إلى إتمامه، والإمالة استعملها في هذا سيبويه وغيره، وذلك على التشبيه، لاشتراكهما في الشوب والمزج (شرح الدرر للمنتوري 791-793).

وشرح الإمام عبارة سيبويه وكيف يؤخذ منها كيفية هذا الإشمام، ويُرَدُّ بها قول المخالف، قال عقيب نقلها، وقد سلفت: "وهذا كلام مفسِّر لحقيقة الإشمام أنه كما قلنا، وذلك بخلاف ما زعمه مخالفونا من أن حقيقته أن يكون أوله مكسورًا محضًا، ثم يشار إلى الضمة بالعضو، ألا تراه قال: وأما من ضم بإشمام، وقوله أيضًا: فضم وأمال، وقوله: كما ضموا وبعدها الياء، فأطلق الضم على الفعل في الثلاثة المواضع، ثم بين حقيقته بقوله: بإشمام، وبقوله: وأمال، يريد بذلك أن الضم ليس بخالص، وإنما هو إنالة الحرف شيئًا منه، كالإمالة سواء، ولم يقل: كسر ثم أشم، ولا كسر ثم أشار" (شرح الدرر للمنتوري 793).

وهذا نص نفيس، واستنباط بارع، وشرح بليغ. وهو يدل على شدة الخلاف، ووقوع الجدل فيه، حتى استخرج الإمام الداني هذا النص من كتاب سيبويه، وشرحه واستنبط منه حقيقة الإشمام، لما هو معلوم من صعوبة الكتاب على النحويين أنفسهم، حتى إنهم يتعايرون قلةَ الاطلاع عليه، أو قله فهم ما فيه.

وصوَّر السخاوي (٥٥٨-٦٤٣) المسألة كما صورها الداني ونقل من كلامه نصًّا طويلًا، وكأنه من غير الكتب التي نقل منها المنتوري، أو نقله بالمعنى، غير أني لم أتبين الفصل بين كلام الداني وكلام السخاوي، فقال في بيان كيفية الإشمام: "وحقيقة هذا ‌الإشمام: أن تنحو بكسرة فاء الفعل نحو الضمة، فتمال كسرة فاء الفعل، وتميل الياء الساكنة بعدها نحو الواو قليلًا، إذ هي تابعة لحركة ماقبلها". ونقل السخاوي عن الحافظ الداني: "وقد زعم بعض من يشار إليه بالمعرفة -وهو بمعزل عنها وخال منها-: أن حقيقة ‌الإشمام في هذا أن يكون إيماءٌ بالشفتين إلى ضمةٍ مقدَّرة مع كسرة فاء الفعل كسرًا خالصًا، قال: وإن شئت أومأت بشفتيك قبل اللفظ بالحرف المشم الذي تومئ إلى حركته، وإن شئت بعده، وإن شئت معه. قال أبوعمرو: وهذا كله خطأ باطل لا شك فيه، من قِبَل أن الإيماء قبل اللفظ بالحرف المشم الذي تومئ إلى حركته غير ممكن، إذ لم يحصل قبلُ ملفوظًا به، فكيف تومئ إلى حركته وهو معدوم في النطق أيضًا".

وهذا هو قول مكي الذي سلف، قال: "هذا مع تمكن الوقوف على ما قبله والابتداء به [أي في نحو ﴿سيء﴾]، فيلزم أن يكون ابتداء المبتدئ بذلك إعمالَ العضو وتهيئتَه قبل النطق، ولم يُسمع بهذا قط، ولا ورد في لغة، ولا جاء في قراءة، ولايصح في قياس، ولا يتحقق في نظر" (فتح الوصيد 624-625).

فهذا ردٌّ للإشارة إلى الضم قبل الحرف، وقال في رد الإشارة مع الحرف أو بعده: "وأما الإيماء بعد اللفظ به مكسورًا محضًا فغير مستقيم، وكذلك الإيماء معه في تلك الحال لا يمكن، إذ لو كان ذلك لوجب أن يُستعمل في النطق بذلك عضو اللسان للكسرة والشفتان للإشارة، ومحال أن يجتمعا معًا على حرف واحد في حال تحريكه بحركة خالصة، إذ ليس في الفطرة إطاقة ذلك. وإنما حمل القائل على هذا القول: القياسُ منه على كيفية الإشمام عند الوقف على أواخر الكلم، إذ يؤتى به هناك بعد سكون الحرف والفراغ منه، وبين المكانين فُرْقان غير مشكوك فيه على ما بينَّا".

ثم رد قولين آخرين، هما الضم المشبَع أو المختلَس بعده الياء المحضة، ولا أجزم في هذا الذي ذكره أهو من قول الداني أو قول السخاوي، والأقرب أنه قول السخاوي، لأن ظاهر عمل المنتوري أنه يستقصي قول الداني من كتبه، قال: "وزعم آخرون أن حقيقته: أن يُضَم أولُه ضمًّا مشبعًا، ثم يؤتى بالياء الساكنة بعد تلك الضمة الخالصة، وهو باطل، لأن الضمة إذا أخلصت ومُطِّط اللفظ بها انقلبت الياء بعدها واوا، إذ لا تصح ياء بعد ضمة، كما لا تصح واو بعد كسرة. وزعم قوم من أهل الأداء أن حقيقة الإشمام في ذلك: أن يُشَمَّ أولُه ضمًّا مختلَسًا، وهذا أيضا باطل، لأن ما يختلس من الحركات ولا يتم الصوت به كهمزة بين بين وغيرها، لا يقع أبدًا أولًا، وذلك لقربه بالتضعيف والتوهين من الساكن المحض، وإنما دخل الوهم على هؤلاء وعلى قوم من جهلة النحاة من أجل العبارة عنه بالإشمام" (فتح الوصيد 625-626).

ولخَّصه أبو شامة (٥٩٩-٦٦٥)، لكنه لم يجزم بالصواب بل قال: "والأصح ما ذكرناه أولًا" (إبراز المعاني 228). فتحصل من هذا أربعة أوجه مردودة في شرح كيفية هذا الإشمام عند الداني والسخاوي: (1) كسرة محضة ويشار إلى الضم بالشفتين (2) الإشارة إلى الضم قبل النطق بالحرف الأول المشم (3) ضم خالص مشبع يليه ياء (3) ضم خالص مختلس يليه ياء.

ويشبه هذا ما ذكره ابن الحاجب (٥٧٠-٦٤٦) من ردِّ شرح هذا الإشمام بأنه ضم الشفتين قبل النطق بالحرف أو معه أو بعده، غير أنه زعم في اللفظ الموصول بما قبله وليس مبتدأ به، نحو: ﴿زُلْفةً سيء﴾ - أن ضم الشفتين يكون في زمن ثالث ليس هو زمن نطق الحرف السابق ولا الحرف المشم، وهذا تكلف ولا أصل له (الإيضاح في شرح المفصل 2/430-431).

ومن رأي ابن مالك (٦٠٠-٦٧٢) أن الإشمام يكون في الحرف الأول وأما الياء بعده فخالصة، قال: "ومن ‌أشم الكسرة ضمة لم يغير الياء" (شرح التسهيل 2/131، وشرح الكافية 604)، وتبعه ابنه على ذلك (شرح الألفية لابن الناظم 89).

وأورد الرضي (-684) الأقوال صوابَها وخطَأَها بأوجز عبارة، قال: "وحقيقة هذا الإشمام: أن تنحو بكسرة فاء الفعل نحو الضمة، فتميل الياء الساكنة بعدها نحو الواو قليلًا، إذ هي تابعة لحركة ما قبلها، هذا هو مراد القراء والنحاة بالإشمام في هذا الموضع. وقال بعضهم: الإشمام ههنا كالإشمام حالة الوقف، أعني ضم الشفتين فقط مع كسر الفاء كسرًا خالصًا، وهذا خلاف المشهور عند الفريقين، وقال بعضهم: هو أن تأتي بضمة خالصة بعدها ياء ساكنة، وهذا أيضًا غير مشهور عندهم، لأن الإشمام عندهم ههنا حركة بين حركتي الضم والكسر بعدها حرف بين الواو والياء" (شرح الرضي على الكافية 4/131).

وهذا ما قرره الداني ومن بعده السخاوي وأبو شامة، وقد نفى أن يكون كسرًا خالصًا مع الإشارة بالشفتين إلى الضم فحسب، ونفى أن يكون ضمًّا خالصًا بعده ياء خالصة، لأنه حركة بين بين، وهذا يمكن أن يتفرع فرعين بالضم المشبَع والضم المختلَس، كما بينه السخاوي. وترى أن الرضي هوَّن من القول المردود فلم ينسبه، ولكن قال: "وقال بعضهم" في المرتين، ووصفه بأنه غير مشهور، ولو كان قولًا لأئمة متقدمين لما أغفله، وترى أيضًا أنه عوَّل على الرواية والنقل، لا على التصور العقلي، وأنه جعل جمهور القراء والنحويين متفقين على معناه.

ويشبه هذا ما قاله ابن أبي الربيع (599-688) في شرح الجمل، فقد فرَّق بينه وبين إشمام الوقف، وصوَّب نحو قول الداني ومن وافقه، وذكر ما خالفه غير منسوب، قال: "والإشمام هنا إنما هو أن تنطق بحركة بين الكسرة والضمة، فتصير المدة التي بعد حركة الفاء بين الياء والواو، ووقفت على نحو من هذا لابن جني"، وهو ما ذكره في سر الصناعة كما سلف، وذكر ابن أبي الربيع الخلاف كالرضي غير منسوب، قال: "وكذلك الإشمام في قيل في كيفيته خلاف، البيِّن عندي ما ذكرته، وبه أيضًا قرأت. ومن الناس من ذهب إلى أنك في قيل وما أشبهها تضم شفتيك قبل النطق بفاء الكلمة، ثم تنطق بفاء الكلمة بكسرة خالصة، لا يدركه إلا من يبصرك، ومنهم من قال: بل بعد النطق بفاء الكلمة، تضم شفتيك، وتجري مجرى إشمام الوقف، والأظهر ما ذكرته" (البسيط في شرح الجمل 958-959).

وشرَح المالقي (-705) في شرح التيسير بعبارة مخالفة شيئًا لما عبَّر به الداني، لكنه قريب في المعنى مما شرحه، وذكر أيضًا قول مكي، قال: "اعلم أن حقيقة هذا الإشمام أن تضم شفتيك حال النطق بكسر القاف من قيل والغين من غيض والجيم من جيء، فيخرج صوت الكسرة مشوبًا بشيء من لفظ الضمة من غير أن ينتهي إلى الضم الخالص، ويصحب الياء التي بعد هذه الكسرة شيء من صوت الواو من غير أن ينتهي إلى الواو الخالصة، بل لابد أن يكون الغالب في النطق لفظ الكسرة، ولفظ الياء، ونظير ذلك الإمالة، فإنك إذا أملت الفتحة والألف سرى مع الفتحة شوب من لفظ الكسرة ومع الألف شوب من صوت الياء من غير انتهاء إلى الكسر الخالص، والياء الخالصة، وإذا تقرر هذا لزم أن هذا النوع من الإشمام يدرك بحاسة السمع".

ثم اختار أن يسمي هذا روْمًا تفريقًا بينه وبين إشمام الوقف، وذكر قول مكي وقال: "وقد ذكر الحافظ (أي الداني) هذا القول في بعض تواليفه ورده، وذكر الشيخ (أي مكي) أنه قرأ بالوجهين، ورجح القول الأول" (الدر النثير 4/209-211).

وما شاع عند المتأخرين وأخذوا به وخطَّئوا ما سواه هو عبارة الجعبري (٦٤٠-٧٣٢) في شرح الشاطبية، وهو مخالف لقول الداني، بل هو مما خطَّأه الداني، وهذا مستغرب، إذ ما الذي يجعل قول المتأخر رائجًا دون قول المتقدم الذي يُقِرُّ له جميع أهل الفن بالإمامة؟! إلا أن يكون تعلُّقَ المتأخرين بالمتون وشروحها، واكتفاءهم بها عن تحقيقات الأئمة في كتبهم الكثيرة. قال الجعبري: "وكيفية اللفظ أن تلفظ على الفاء بحركة تامة مركبة من حركتين إفرازًا لا شيوعًا، جزء الضمة مقدم أقل يليه جزء الكسرة الأكثر، ومن ثم تمحضت الياء" (كنز المعاني - نسخة مكتبة جار الله 139و-ظ)

وهذا ما رأيناه مردودًا في كلام الحافظ ومن بعده من متابعيه. ثم رد قول الداني وقول مكي على طريقته في العبارات الموجزة جدًّا كالألغاز، قال: "وتنظير مكي بالإمالة يوهم الشيوع، قال الحافظ: ياء نحو الواو، إذ هي تابعة لحركة سابقها، وليس كذلك لذلك، وكأنه توهم الشيوع، وقيل: يشار بالضم مع الفاء أو قبل أو بعد، وكلٌّ باطل"، ثم أخذ في رده. ولم يذكر في توجيه قوله دليلًا على صحة ما سماه الإفراز، وتخطئة ما سماه الشيوع. والأمر في ذلك راجع إلى الرواية وتحقيق المتثبتين البصراء من المتقدمين، وهو هنا الإمام الداني، مع ما عضَّده من عبارة سيبويه.

ونقل أبو حيان (٦٥٤-٧٤٥) عن ابن عصفور (597-669) بواسطةٍ ردَّ قول مكي وترجيحَه أن يسمى هذا رَوْمًا، كما سلف عن المالقي، ونقل عن أبي علي يعني الشَّلَوْبِين (562-645) ردَّ قول الداني، قال: "وقال الأستاذ أبو علي: زعم أبو عمرو الداني أن الإشمام هنا بمعنى الاختلاط، وأنه لا بد من سماعه، ومحال أن يكون الإشمام في مثل هذا الموضع من التي وقع الإشمام فيها في الوصل كالإشمام في الوقف. يريد [أي الشلوبين] غير مسموع. وقال [أي الداني]: إنه لا يطوع بالنطق به لسان. قال الأستاذ أبو علي: وقد كان شيخنا أبو عمرو بن الطفيل (-702) المقرئ المجود يتقنه، ويُشِمُّ الحرف الموصول من غير أن يُسمَع إشمام، وقد سمعته يورده غير مرة، ولا يسمع لإشمامه صوت أصلًا".

ورد عليه أبو حيان بنقل عبارة لسيبويه، وفيها التصريح بالسماع، قال: "وقد قال سيبويه في باب من أبواب الجزاء: وسمعنا من العرب من يُشِم الضم، وهذا ظاهره أن الإشمام في الموصول مسموع كما قال أبو عمرو الداني" (التذييل والتكميل 6/269-271)، غير أن ما قاله سيبويه كان في غير مسألتنا، وهي مسألة اختلاس الحركة، فتكون بين المتحرك والساكن (الكتاب = هارون 3/95)، وعنى أبو حيان أنه يشملها الإشمام في الوصل، وبينهما فرق، كما هو ظاهر (ولخص أبو حيان المسألة في الارتشاف 1341، كما لخص بعض كلامه متابعوه كابن عقيل في المساعد 1/402، وناظر الجيش في تمهيد القواعد 1645، والسيوطي في همع الهوامع 6/38).

ثم وجدت أول من نقل قول الجعبري ابن أم قاسم (-749) في شرحه الألفية، وقد رجَّح قوله مع أنه عنده مخالف لظاهر كلام كثير من النحويين والقراء، قال: "ظاهر كلام كثير من النحويين والقراء أنه يُلفظ على فاء الكلمة بحركة تامة ممتزجة من حركتين ضمة وكسرة على سبيل الشيوع. والأقرب ما حرَّره بعض المتأخرين فقال: كيفية اللفظ أن يلفظ على فاء الكلمة بحركة تامة مركبة من حركتين، إفرازًا لا شيوعًا جزء الضمة مقدم، وهو الأقل، يليه جزء الكسرة، وهو الأكثر ومن ثم تمحضت الياء" (شرح الألفية لابن أم قاسم 1/286-287، ونقله بنصه العز بن جماعة في حاشيته على شرح الجاربردي على الشافية 299).

ثم نجد الشاطبي (-790) في شرح الألفية لخص المذاهب في كيفية هذا الإشمام، ولم يستوف حقيقة الخلاف على سعة كتابه، وإن كان قد شهَّر الصواب، قال: "ولم يتعرض لصورته (أي المصنف) كيف تكون، وفي ذلك ثلاثة مذاهب: أحدها: ضم الشفتين مع النطق بالفاء، فتكون حركتها بين حركتي الضم والكسر نحو: قيل، وبيع. وهذا هو المعروف المشهور، والمقروء به. والثاني: ضم الشفتين بعد إخلاص كسرة الفاء نحو: قيل، وبيع. والثالث: ضم الشفتين قبل النطق بها، لأن أول الكلمة مقابل لآخرها فكما أن الإشمام في الأواخر بعد الفراغ من إسكان الحرف، فكذلك يكون الإشمام في أولها قبل النطق بكسرة الحرف. والمشهور المذهب الأول" (المقاصد الشافية 3/21-22).

فترى أنه لم يبين حقيقة صوت الياء بعد إشمام أول الفعل. على حين نجد بيان ذلك في كلام ابن القاصح في شرح الشاطبية، فقد كان على طريقة الداني، قال: "وكيفية ‌الإشمام في هذه الأفعال أن تنحو بكسر أوائلها نحو الضمة، وبالياء بعدها نحو الواو فهي حركة مركبة من حركتين كسر وضم"، واستنبط من لفظ الشاطبي تخطئة بعض المذاهب الأخرى في ذلك، والتفريق بينه وبين إشمام الوقف وإشمام الصاد، قال: "ولم يقتصر على ذكر الإشمام بل قال: يشمها لدى كسرها ضمًّا، لأنه لو سكت على الإشمام لحُمل على ضم الشفتين المذكور في باب الوقف، وهذا يخالف المذكور في باب الوقف، لأنه في الأول، ويعم الوصل والوقف، ويُسمَع، وحرفه متحرك، وذاك في الأخير والوقف ولا يسمع وحرفه ساكن، ويخالف المذكور في الصاد، أعني النوع الثالث في اصطلاحه وهو إشمام الصاد الزاي" (سراج القاري 149).

فإذا بلغْنا القَيْجاطي (-811) وجدناه وحده ينسب الخلاف في ذلك إلى مشاهير النحويين، وأظنه فهمًا له، وليست حقيقته على ما صوَّره، كما سأبين، قال فيما نقل صاحبه المنتوري: "ومنهم من يشعر بالضمة الذاهبة، وحقيقة الإشعار بها أن تشرب الكسرة صوت الضمة، كما تشرب الفتحة في الإمالة صوت الكسرة، ولا خلاف في هذا بين أئمة النحاة، واختلفوا في الحرف الواقع بعد الحركة المشمة، هل يبقى على حاله ياء محضة، أو يشرب صوت الواو، فيكون الحرف الواقع بعد الحركة المشمة على قسطها تابعًا لها، فيكون مده على مقدار مد الياء الواقعة بعد الكسرة، والثاني قول سيبويه والفراء، والأول قول الأخفش، وقواه أبو علي الفارسي، فالياء في قوله غير تابعة للحركة قبلها، لأنها مشمة ضمًّا، والياء بعدها محضة، فمدها على مقدار الياء الواقعة بعد الفتحة، وإنما كانت كذلك لأنها مخالفة للحركة التي قبلها، كما أن الياء المفتوح ما قبلها كذلك، وهي في قول سيبويه ناشئة عن الحركة التي قبلها، كما أن الياء المكسور ما قبلها كذلك" (شرح الدرر للمنتوري 795).

وهذا الخلاف الذي ذكره القيجاطي إنما وقع في الواو بعد الضمة الـمُشمَّة كسرة في نحو قولهم: "ابن مَذْعُور"، لا في الكسرة المشمة ضمة، فقد قال سيبويه: "وتقول: هذا ابنُ مَذْعُورٍ، كأنك تروم الكسرة، لأن الراء كأنها حرفان مكسوران، فلا تميل الواو لأنها لا تشبه الياء، ولو أملتها أملت ما قبلها، ولكنك تروم الكسرة كما تقول: رُدَّ" (الكتاب = بولاق 2/270 = هارون 4/143).

وههنا حاشية للأخفش لم ترد في الطبعتين للكتاب، وهي في طبعة باريس، وهي في أصولها في المتن فحطَّها الناشر إلى التعليقات على طريقته في محاولة عزل الحواشي (انظر بحثي: كتاب سيبويه في المخطوطات)، ونصها: "وقال أبو الحسن: أقول في مذعور وابن بور أُميل ما قبل الواو، وأما الواو فلا أميلها، وسيبويه يقول: أروم الكسرة في الواو" (الكتاب = باريس 2/293، وانظر حواشي كتاب سيبويه 3/1564).

ولأبي علي الفارسي تعليقة على هذه الحاشية بيَّن فيها وجْهَ قول سيبويه ووجْهَ قول الأخفش، فهو لم يقوِّ أحدهما، كما ظن القيجاطي، ولكن بيَّن وجهه من النظر لو أريد الاحتجاج له، ويدلك على ذلك أنه فعل ذلك بالقولين، بل كأنه مال إلى قول سيبويه (انظر مختار تذكرة أبي علي 446-448 وحواشي كتاب سيبويه 3/1564-1566).

وأما ابن جني فصرَّح بتأييد قول سيبويه، فقال: "وأما ‌الضمة ‌المشوبة ‌بالكسرة فنحو قولك في الإمالة: مررت بمذعور، وهذا ابن بور، نحوتَ بضمة العين والباء نحو كسرة الراء، فأشممتها شيئا من الكسرة، وكما أن هذه الحركة قبل هذه الواو ليست ضمة محضة، ولا كسرة مرسلة، فكذلك الواو أيضا بعدها، هي مشوبة بروائح الياء، وهذا مذهب سيبويه، وهو الصواب، لأن هذ الحروف تتبع الحركات قبلها، فكما أن الحركة مشوبة غير مخلصة، فالحرف اللاحق بها أيضا في حكمها. وأما أبو الحسن [أي الأخفش] فكان يقول: مررت بمذعور وهذا ابن بور، فيشم الضمة قبل الواو رائحة الكسرة، ويخلص الواو واوا محضة البتة، وهذا تكلف فيه شدة في النطق، وهو مع ذلك ضعيف في القياس. فهذا ونحوه ما لا بد في أدائه وتصحيحه للسمع، من مشافهة توضحه، وتكشف عن خاص سره" (سر صناعة الإعراب 1/53).

وقوله هنا: "لأن هذ الحروف تتبع الحركات قبلها، فكما أن الحركة مشوبة غير مخلصة، فالحرف اللاحق بها أيضا في حكمها" يناقض قوله الذي سلف فيما كتبه على الحماسة، لأنه هناك فرَّق بين الألف والياء، فالألف لا يكون ما قبلها إلا مثلها إخلاصًا أو إمالة، وأما الياء فيجوز أن يكون ما قبلها مخالفًا لها، وهو هنا سوَّى بينهما، والصواب التسوية، لأنه تصعب المخالفة أو تتعذَّر.

ورد قول الأخفش أيضًا الرضي، فقال: "وما ارتكبه الأخفش يتعذر اللفظ به ولا يتحقق، وأما قوله: قد لا يكون ما قبلها مضمومًا - فنقول: أما الفتح فمسلَّم أنه يجيء الواو الصريحُ بعده، كقَوْل، وأما الكسر والضم الـمُشَمُّ كسرًا فلا يجيء بعدهما الواو الساكنة إلا مَشُمَّة ياء، وعليك بالاختبار" (شرح شافية ابن الحاجب 3/29).

أي مثَل الواو والياء مثَل الألف في أنهما متولدان عما قبلهما، وأما ما في نحو قَوْل وبَيْت فشيء آخر غير المدود أو الحركات الطويلة التي هي جنس واحد إخلاصًا أو إشمامًا، ولا تقبل التلوين.

على أن هذه المسألة التي وقع فيها الخلاف ليست مسألة إشمام نحو: ﴿قيل﴾ و﴿سيء﴾، وإن كانت تشبهها، فنَقَلَ القيجاطي الخلاف في هذه إلى تلك، وأشار هو إلى ذلك في آخر رده قول مكي، قال: "والخلاف في الواو هنا كالخلاف في الياء في ﴿سيء﴾ وبابه، فافهم". ويبقى أنه ضَمَّ إلى سيبويه الفراء، ولم أجد للفراء ذكرًا في هذا الخلاف.

ثم كان القسطلاني (851-923) أول من نقل قول الجعبري مع تسميته، لكن ليس في شرح كيفيته بل في رد قول مكي (لطائف الإشارات 1411)، وابن أم قاسم من قبل وصفه بأنه بعض المتأخرين بلا تسمية، ولم يسمه أيضًا الدمياطي (-1117) (في إتحاف فضلاء البشر 80)، والعجب من السفاقسي (١٠٥٣-١١١٨) إذ أخذ قول الجعبري بلا تسمية ولا بحث، ثم قال: "ومن يقول غير هذا فإما أن يكون ارتكب المجاز أو قال بما لا تحل القراءة به" (غيث النفع 83)، وأخذه المارِغْني (-1349) وزاده تشديدًا فقال: "هذا هو الصواب، ومن قال خلافه فكلامه إما مؤول أو باطل لا تجوز القراءة به" (النجوم الطوالع 193).

وكأن الضباع (-1376) أخذ قول الجعبري من مظنته، وهو شرحه الشاطبية المسمى "كنز المعاني"، لأنه ذكر قوله في كيفية هذا الإشمام منسوبًا إليه، ولم أجد أحدًا فعل ذلك من قبل، ثم قال متعقِّبًا لقول الجعبري، بعد أن لخَّص المسألة من شرح ابن القاصح للشاطبية: "والظاهر من كلام الشاطبي أن جزء الكسرة مقدم" (الإضاءة 63)، ذلك أن الشاطبي قال:
و﴿قيل﴾ و﴿غيض﴾ ثم ﴿جيء﴾ يُشِمُّها لدى كسرها ضمًّا - رجالٌ لتَكْمُلا
وليس فيه ذكرٌ لتقدُّم حركة على أخرى، ولكنه أراد أن يبيِّن أن الأصلَ الكسرُ وأُدخل عليه الضم للإشارة إلى الأصل، كما ذكر ابن القاصح، وظنُّ تقدُّم إحدى الحركتين سوءٌ في الفهم ذهب إليه بعضهم وأخذه المتأخرون عن الجعبري، ورده الداني رواية ودراية. على أن الشيخ الضباع اكتفى في شرحه الشاطبية بذكر مقولة الجعبري (شرح الشاطبية المسمى إرشاد المريد 148).

ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنه لا فرق بين الكسر والإشمام إلا في تدوير الشفتين، ذلك أنه لا يمكن الجمع بين الضمة والكسرة، فالكسرة تنتج بحركة مقدَّم اللسان مع انفراج الشفتين، والضمة بحركة أقصاه مع ضمهما، فالإشمام عنده كسرة أدخل عليها من الضم تدوير الشفتين فحسب (القراءات القرآنية بين العربية والأصوات القرآنية 49 و206).
والذي يبدو من الوصف الذي شرحه الإمام الداني أن يكون في الإشمام شيء من حركة مقدم اللسان لا يبلغ حده المعتاد في الياء الخالصة، وشيء من حركة أقصى اللسان لا يبلغ حده المعتاد في الواو الخالصة، وأيضًا تضم الشفتان بمقدار لا يبلغ الحد المعتاد في الواو الخالصة، فتكونان بين الضم والانفراج.

خلاصة البحث


1- لغةُ الإشمام في بناء الفعل الأجوف للمفعول تقع بين اللغتين الأخريين نطقًا وكثرةَ استعمال، وإحداهما: إخلاص الياء، وهي أشهر اللغات، والأخرى: إخلاص الواو، وهي أقلهن شهرة، ومعنى أنها بين اللغتين نطقًا أنها بين الكسر والضم، والصوت الصائت بعد فاء الكلمة بين الياء والواو، وقد عبَّر القدماء عن هذه اللغة بالإشمام وبالرَّوْم وبالإمالة وبالضم، فالإشمام على معنى الإدخال والشَّوْب، أي شوب الياء بصوت الواو، والروم على معنى الإرادة والهم، أي إرادة صوت الواو بغير إتمام وإخلاص، والضم على معنى إدخال الضم على الكسر، وإدخال الواو على الياء.

2- وقد استعملوا كل هذه الاصطلاحات بغير شرح مفصَّل يبين العمل تعويلًا على السماع والمشافهة.

3- نسب ابن النحاس إلى الأخفش قولًا لم نجده في كتابه المعاني أو في مصدر آخر، وعبَّر عنه بقوله: "قال الأخفش: ويجوز بضم القاف وبالياء"، وجاء عند غيره: "بضم القاف والياء" بإسقاط الباء، وحكاه مكي وقال: "شاذ لا قياس له"، ونفى السَّمينُ أن يكون معناه أن الياء تُضَم، أي لا يدخلها الإشمام.

4- واختلف قول ابن جني في الياء بين أنها مشوبة بروائح الواو، في سر الصناعة، وأنها خالصة البتة وغير مشوبة، فيما كتبه على الحماسة.

5- وذكر مكيٌّ قولًا غريبًا، هو أن الإشمام يجوز مع الحرف وقبله، وذكر أنه قرأ بالوجهين، وكأنه جعله إشارة إلى الضم كالذي في الوقف.

6- وكلام الداني يفيد أن الخلاف في كيفية هذا الإشمام قديم، منذ زمنه على الأقل، وعبارته تفيد أن الأمر دائر بين خطأ وصواب عنده، وليس بين وجهين جائزين أو أوجه جائزة، وكيفيته عنده أن يُنحَى بالكسرة نحو الضمة، وبالياء بعدها نحو الواو، كما يُنحى بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء، في الإمالة والتقليل، وبالفتحة نحو الضمة، وبالألف نحو الواو، في الألف المفخمة، فهي حركة بين حركتين، ومدٌّ بين بين، أي بين الياء والواو.

7- وبذلك هي عنده حركة واحدة مركبة مخلوطة ليس فيها تقدم جزء على جزء ولا نوع على نوع، وهي نوع من الحركات القصيرة أو الطويلة تُسمَع، وليست إشارة بالشفتين كالتي في الوقف. وقد رد الداني كل ما يخالف هذا الوصف، ونعته بأنه باطل وخلاف قول المحققين وأهل التحصيل من النحويين والقراء، وأنه لم يُحْكَ في لغة ولا ثبت في تلاوة، أي هو من بنات التصور العقلي المحض بلا رواية.

8- ورد الشلوبين فيما نقل أبو حيان قول الداني، وزعم أنه إشارة بالشفتين فحسب، أي مثل إشمام الوقف، وذكر أن شيخه ابن الطفيل كان يقرأ بذلك.

9- ووافق السخاوي في شرح الشاطبية وصف الداني للإشمام، ونقل عنه عبارات غير ما نقل المنتوري، وزاد في رد الأوجه المخالفة للصواب أن ردَّ وجهين آخرين، ولا يتضح آلكلام كلامه أم كلام الداني؟ والوجهان الآخران هما الضم مشبعًا أو مختلسًا وبعده ياء خالصة، وهو القول الذي نُقل من بعد عن الجعبري، فيكون السخاوي أقدم من ذكر هذا القول، لكن لا جَزْم بأنه من كلامه أو من كلام الداني.

10- وهذا القول الذي رده الداني أو السخاوي من إخلاص الياء بعد الإشمام ذهب إليه ابن مالك في شرح التسهيل وشرح الكافية، وابنه في شرح الألفية.

11- وشرَح الرضي كيفية هذا الإشمام على نحو ما بيَّن الداني، ووصفَه بأنه مراد القراء والنحاة، وذكر قولًا بأنه إشارة بالشفتين كما في الوقف، وقولًا آخر بأنه ضمة خالصة بعدها ياء خالصة، ووصف كلا القولين بأنه غير مشهور عند الفريقين، ولم يسم صاحب أحد من القولين، ولكن قال: "قال بعضهم". ومثْلُ الرضي ابن أبي الربيع في شرح الجمل، وصف كيفيته، وقال: "وقفت على نحو هذا لابن جني"، وزاد أنه قرأ بذلك.

12- العبارة المشهورة لدى المتأخرين: "أن تلفظ الفاء بحركة تامة مركبة من حركتين إفرازًا لا شيوعًا، جزء الضمة مقدم وهو الأقل يليه جزء الكسرة وهو الأكثر، ومن ثم تمحضت الياء" للجَعْبَري في شرحه الشاطبية المسمى: "كنز المعاني"، وردَّ قول الداني، وقول مكي.

13- أول من وجدته نقل عبارة الجعبري ورجح الوصف الذي فيها على المشهور كما وصفه الداني وغيره - ابن أم قاسم في شرح الألفية، على أنه وصف القول بأن الياء مشمة أيضًا بأنه: "ظاهر كلام النحويين والقراء".

14- والقيجاطي أول من وجدته نسب الخلاف في الإشمام إلى مشاهير النحويين، فجعل سيبويه والفراء يريان إشراب الياء صوت الواو، والأخفش يرى إخلاص الياء بعد الضم، وإنما وقع الخلاف في الواو الممال ما قبلها، كما في نحو: ابن مذعور، فكأنه قاس مسألة على مسألة، وأجرى الخلاف في هذه كما جرى في تلك. وقول الأخفش كَتَبَه في حاشية له على كتاب سيبويه.

15- وأخذ بقول الجعبري: القَسْطَلَّاني والدُّمْياطي والسَّفاقُسي والمارِغْني والضَّبَّاع من المتأخرين.

16- فمن يرى محض الياء بعد الضم: الأخفش على احتمال، وكأنه قيست الياء في إشمام نحو: "قيل" على قوله في الواو الممال ما قبلها في نحو: "ابن مذعور"، وابن جني في مشكل الحماسة، وهو أحد قولين له، وابن مالك في شرح التسهيل وشرح الكافية، وتابعه ابنه في شرح الألفية، والجعبري في شرح الشاطبية، وابن أم قاسم في شرح الألفية.

17- ومن يرى أن الياء مشمة بالواو، وهي تابعة لإشمام فاء الفعل، كما تمال الألف وتفخم تابعة لما قبلها، وأن المنطوق حركة واحدة ممزوجة لا يتقدم فيها جزء على جزء: ابن جني في سر الصناعة، ومكي على احتمال لأنه شبهه بالإمالة، والإمام الداني، ووصف هذا بأنه مراد النحويين والقراء بالإشمام، ووصف غير هذا بأنه باطل لا يجوز، وقال بقوله: السخاوي وأبو شامة والرضي وابن أبي الربيع والمالقي وابن القاصح.

18- ويظهر أن الصواب هو قول الداني لأنه بناه على النقل في الأداء، وجعله مراد القراء والنحويين، وعضَّده بكلام سيبويه، وخطَّأ غيرَه صراحة، مع تقدمه في الزمن وجلالة قدره وتحقيقه، وأن ذلك نظير الإمالة والتقليل والتفخيم في الألف، حكمُها حكم ما قبلها، والقول الآخر لا نظير له إلا على قول شاذ ذهب إليه الأخفش في الواو الممال ما قبلها.

والله أعلم
كتبه محمد بن خليل الزروق في تاجوراء: لليلة بقيت من شهر صفر سنة 1445 = 14/9/2023م

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  1925