| مَعلَمة المناهج الأزهريةحسين بافقيه | مقالةتاريخ النشر: 2023/07/30 اقرأ للكاتب |
(1) ما إنْ قرأتُ منشوراتٍ عنْ (مَعْلَمة المناهج الأزهريَّة) حتَّى كَسَرْتُ تقليدًا أخذتُّ به، منذ تقاعدْتُّ بفضل الله، وهو أنْ لا أبرَح ضاحِيَة أبحر الشَّماليَّة، إلى وسط جُدَّة وقلب البلد وما يُحِيطُ بهما = إلَّا للشَّديدِ القويّ! عَدَدْتُّ هذه (المَعْلَمة) مِنَ الشَّديد القويّ الذي يَحملُني على مُبارحة الضَّاحِيَة إلى قلب المدينة، ولا بأس في ٤٠ كيلًا ذهابًا ومِثلها إيابًا مِنْ أجْلٍ كِتابٍ تَوَسَّمْتُ فيه الفخامةَ والرَّصانة، ولوْ لمْ أَشُدَّ الرِّحَالَ إلى "مكتبة المنهاج" لقضيْتُ نهاري وليلي مضطرِبًا قلِقًا!
(2) الكِتابُ "مَعْلَمةٌ" كاسْمِه، يُنْبِئكَ بفخامتِه منذ تُطَالِعُه في منشورات الأصدقاء، فلمَّا أقبلْتُ على "المنهاج" دفعْتُ البابَ دفعًا، وكأنَّ أحدًا يُطارِدُني، ولا أدري أَبَدَأْتُ البائعَ بالسَّلام أَمْ لا، وقُلْتُ مِنْ فَوْري: أين (مَعْلَمة المناهج الأزهريَّة)؟!
(3) كان منظري منظرَ إنسانٍ ضَلَّ طريقَه، فلمَّا خافَ الضَّيَاع اهتدَى إلى السَّبيل؛ أوْ جائعٍ في مطعمٍ طعامُهُ لذيذٌ شهيٌّ! قابَلَني البائعُ بابتسامةٍ طبيعيَّةٍ لكنَّها لا تَدُلُّ على أنَّه يحتفِلُ لِـ (المَعْلَمة) التي كُنْتُ أُسابِقُ ظِلِّي للظَّفَرِ بها، وإمتاعِ عَيْنَيَّ بتأمُّلِها وتَذَوُّقِها! وأشارَ إلى صُندوقِ وسطٍ مِنَ الورق المقوَّى، وقال: ها هي ذي!
(4) كان السُّرُورُ بادِيًا على وجهي، وأنا أنظُرُ إلى المجلَّدات، ذات العَبَق المُنْعِش، ورجوتُه أن يُطْلِعَني على المُجَلَّدِ الأوّّل. أمسكتُه بكلتا يَدَيَّ! الله! ما أجملَهُ وما أعظمَه! قلتُ في نَفْسي: حقًّا هذا هو الخميس الونِيس، وما هي حتَّى أخذتُّ مقعدي، وشَرَعْتُ أقرأُ العنوان، وصفحةَ البيانات، واسْمَ العلَّامة الْجليل الإمام الأكبر الشَّيخ أحمد الطَّيِّب - حفظه الله - وإذا بتقديمٍ فخمٍ يليقُ بشيخ الْجامِع الأزهر، وعالِمٍ مُحِيطٍ هو البقيَّةُ الباقية، ثُمَّ ظَهَرْتُ على صفحاتٍ رصينةٍ عن التَّعليم الأزهريّ ومناهجِه ومُقرَّراته!
(5) ولا تعجبْ مِنْ فَرَحي؛ فأنا أُعَوِّضُ ما افتقَرَ إليه التَّعليمُ الْجامِعيُّ الْحديثُ بهذا اللَّون مِنَ الكُتُب، وأنا أَصِلُ اسْمي -أنا الفقيرُ إلى الله- بتلك الطَّبَقةِ المُبارَكةِ مِنْ عُلماءِ أُمَّتي، لا فَرْقَ عندي بين ناحيةٍ وأخرى ما دامَ أولئك العلماءُ الأعلامُ ينتمون إلى أُمَّتي وثقافتي، وما الْجامِعُ العتيقُ في مِصْرَ القديمة، والْجامِع الأقصى، وجامِع بني أُمَّيَّة في دمشق، وجامِع المنصور في بغداد، والقيروان، والقرويين، والْجامِع الأزهر، وكُلُّ معهدٍ مِنْ مَعاهد العِلْم في دُنيا الإسلام الواسعة = إلَّا جداولُ مِنْ نهرٍ زاخرٍ عظيم مَنْبَعُهُ المسجدان الشَّريفان في المدينتين المشرَّفتين.
(6) (معلمةُ المناهجِ الأزهريَّة) كِتابٌ نافعٌ عظيم، يَجْلُو لنا عُلُوم الإسلام، على اختلافها، في معهدٍ مِنْ مَعاهدِها، كُنْتُ، وأنا أُمَتِّعُ ناظِرَيَّ، بصفحاتِه الزَّكيَّة، كَمَن يشاهدُ فيلمًا قديمًا بآلةٍ قديمةٍ، تسيرُ متأنِّيَةً مُبْطِئةً لِتَرَى المنظرَ، ثُمَّ إذا بك إزاءَ مَنْظَرٍ آخَرَ، تتبعُه مئاتٌ بلْ أُلُوفٌ مِنَ المَناظِرِ، لكنَّها، هُنا، كُتُبٌ، وشُرُوحٌ، ومختصَرات، ومُلَخَّصات، ومُتُونٌ، ومنظوماتٌ، وأراجيزُ، وحواشٍ، وتعليقاتٌ، وتقاريرُ… وما شِئتَ مِنْ فُنُون التَّأليف في ثقافتِنا!
(7) و(مَعْلَمةُ المناهج الأزهريَّة) أَلِفْبائيَّةُ المحتوَى، تنطوي على تعريفٍ وافٍ للمؤلِّف، أو الماتِنِ، أو الشَّارِحِ، أو المُحَشِّي، أو المُعَلِّق، ويمتازُ التَّعريفُ أو التَّرجمةُ بالوفاء لذلك العَلَم، كما هو معروفٌ ومألوفٌ في كُتُب التَّراجِم، ثُمَّ تقرأُ تقريرًا جيِّدًا عن الكِتاب أو الشَّرْح أو المَتْن… إلخ، يأخُذُ بيدك إلى موضوعه، ومقامِه، وتاريخه، ويُلِمُّ بنُسَخِهِ وطبعاتِه، في تفاصيلَ ماتِعةٍ رصينةٍ يتعشَّقُها طلبةُ العِلْم والعلماءُ والباحثون.
(8) كأنِّي كُنْتُ، وأنا أظهَرُ على شيءٍ مِمَّا انطوَى عليه = كأنِّي كُنْتُ أقرأُ (كَشْف الظُّنُون) للعلَّامة حاجِّي خليفة - رحمه الله - أوْ (جامِع الشُّرُوح والْحواشي) للعلَّامة السَّيِّد عبدِ الله الحِبْشِيّ - حفظه الله - ولا غرابةَ في ذلك؛ فالمَعْلَمةُ الأزهريَّة الفخمة يرتفعُ نَسَبُها إلى هذه الشَّجَرة العِلميَّة المباركة.
(9) ستُفْرِحُ هذه (المَعْلَمةُ) كُلَّ باحثٍ في التُّراث العربيِّ الإسلاميّ، وكُلَّ قارئٍ يتَّصل بعُلُوم الإسلام بسبب، وستُبْهِجُ المستعربين والمستشرقين، وسَيْقْدِرُونها حَقَّ قَدْرِها! أمَّا أنا! فماذا أُحَدِّثُ عنْ فَرَحي؟ وماذا أقولُ عن ابتهاجي؟ وحسبي أنَّ شُعُورًا بالفَخْرِ داخَلَني، وأنا أُمْسِكُ هذه (المَعْلَمةَ الأزهريَّة) بكِلْتا يَدَيَّ! ويكفيني أنْ أُحِبَّ الأزهرَ وأمثالَه مِنْ معاهد العِلْم لأُحِبَّ دُرُوسَها وبرامِجَها، وحسبي أنْ أُعَوِّضَ ما حَرَمَني إيَّاهُ التَّعليمُ الْجامِعيُّ الْحديثُ مِنْ عُلُوم أُمَّتي وثقافتي بتجديد العهد بهذا اللَّون الْجليل مِنَ التَّأليف!
(10) لا أُخْفِيكَ -أيُّها القارئُ الكريمُ وأيَّتها القارئةُ الكريمةُ- أنَّني فَرِحٌ ومبتَهِجٌ! لكنِّي…! لستُ أُخفيكُما أنَّني -على فَرَحي بهذه (المَعْلَمة) الفاخِرة- حزينٌ، جِدُّ حزين! فقدْ حِيلَ بيني وبين هذه (المَعْلَمة)، ورجَعْتُ إلى ضاحِيَتي دُونَها، وكأنَّ كُلَّ ما بَلَغْتُه مِنْها أنْ أنْظُرَ إليها وأُحَيِّيها! وكان حالي يُشْبِهُ حالَ إسحاق بن إبراهيم الموصليّ - رحمه الله - حِين قال: سَلَامُ امْرِئٍ لَمْ تَبْقَ مِنْهُ بَقِيَّةٌ * سِوَى نَظَرِ الْعَيْنَيْنِ أوْ شَهْوَةِ الْقَلْبِ! وهلْ بِوُسْعِيَ أنْ أَنْقُدَ البائعَ أَلْفًا ومِئَتَيْ ريال (١٢٠٠ ريال!) هي قيمةُ هذه (المَعْلَمة) الفاخِرة! لا، وربِّي لا أستطيع!
جُدَّة في 22 شوَّال 1444هـ |
|