الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

معالم في تدبر القرآن

محمد خليل الزَّرُّوق

مقالة

تاريخ النشر: 2023/04/28
اقرأ للكاتب
بسم الله الرحمن الرحيم
سألني بعد كلمة قلتها في تدبر سورة قصيرة: كيف السبيل إلى تدبر القرآن؟
فقلت له كلامًا مجملًا، زدته تنقيحًا وتوضيحًا في هذه المقالة.
فأقول: التدبر للقرآن له جانبان: علمي ونفسي.
فالعلمي تحصيل قدر من المعارف الضرورية ليكون التدبر على هدى.
• فأول ذلك أن يختم المرء تفسيرًا مختصرًا من التفاسير ذوات المجلد الواحد أو نحو ذلك، فهذه القراءة تجعله يحيط علمًا بالغريب وبالمعاني الأولية بحسب المشهور لدى المفسرين.
وهذه التفاسير كثيرة، ألفت قديمًا وحديثًا، وأولاها وأرجحها في القديم: تفسير (الجلالين) [الجلال المحلي 791-864هـ والجلال السيوطي 849-911هـ]، ثم تفسير ابن جُزَيْء [693-741هـ] المسمى: (التسهيل لعلوم التنزيل)، وفي الحديث تفسير الشيخ حسنين مخلوف [1308-1410هـ=1890-1990م] المسمى: (صفوة البيان لمعاني القرآن)، ثم تفسير شوقي ضيف [1328-1426هـ = 1910-2005م] المسمى: (الوجيز في تفسير القرآن).
وفي الحديث وضعت تفاسير جرت على طريقة ترجمة معاني الآيات بلسان المؤلف، وهي نافعة في المراجعة لمعرفة فهم المفسر أو المفسرين للمعنى، لكن التفسير على هذا النحو يزاحم لفظ القرآن بنص آخر مواز على طريقة الترجمة للمعاني إلى اللغات الأخرى، وأول من بدأ ذلك -فيما أعلم- الأستاذ محمد فريد وجدي [1295-1373هـ = 1878-1954م] في تفسيره الذي سماه أولًا: (صفوة العرفان في تفسير القرآن) صدر نحو سنة 1323هـ =1905م، ثم سُمي من بعد في الطبعات التالية (المصحف المفسر)، غير أنه يبتدئ بتفسير الألفاظ قبل تفسير المعاني.
وهذا سرد لأهمها بحسب تواريخ صدورها:
1- (المنتخب في تفسير القرآن الكريم) للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية في مصر، نشر سنة 1381هـ = 1960م.
2- (التفسير الوجيز) للشيخ وهبة الزحيلي [1350-1436هـ = 1932-2015م] نشر سنة 1415هـ = 1995م.
3- (التفسير الميسَّر) لمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، نشر سنة 1419 = 1999م.
4- (المعين على تدبر الكتاب المبين) للشيخ مجد مكي [1376هـ = 1957م-] نشر سنة 1427هـ = 2006م.
5- (المختصر في التفسير) لمركز تفسير في الرياض، نشر سنة 1434هـ = 2013م.
• ويضم إلى ذلك أن يختم كتابًا مختصرًا في اللغة، وأرجحها: (مختار الصحاح) للرازي محمد بن أبي بكر [-بعد 668هـ]، وهذا يطلعه على لباب معاني اللغة المستعملة في كلام الفصحاء، ومشهور تفسير اللغويين لها، و(مفردات القرآن)للراغب الأصفهاني الحسين بن محمد [من مخضرمي المائتين الرابعة والخامسة]، وهذا يطلعه على أصول معاني الجذور، وكثير من الفروق، وكثير من التحقيقات اللغوية.
• ولا يستغني عن كتاب صغير في النحو، وأرجحها (شرح شذور الذهب) أو قرينه -وهو أصغر قليلًا-: (شرح قطر الندى)، كلاهما لابن هشام عبد الله بن يوسف [708-761هـ]، وذلك يجعله يحيط بالقواعد الأولية في التراكيب، وكثير من التطبيقات على الآيات القرآنية، والتوجيه لبعض مشكل الإعراب.
ومهما ازداد من علم العربية في كل وجوهها وأبوابها، وتذوق كلام فصحائها وبلغائها، في شعرهم ونثرهم، ازداد علمًا بكتاب الله، وتذوقًا لبيانه، ومعرفة بفضله، وفقهًا في معانيه ومراميه.
• وليس معنى هذا أن من لم يقدر على هذا لا يتدبر القرآن، بل كل مسلم مأمور أن يتدبر، بل كل إنسان، ولو كان غير مسلم، ولو لم يعرف العربية، فهو خطاب لكل الناس، ولكن ليس له أن يذيع ما يخطر بباله من معان وإن لم تقم على أساس من العلم، كالذي لا قدرة له على تعلم القراءة الصحيحة للقرآن، لا يُمنع من أن يقرأ على قدر ما يستطيع، ولكن ليس له أن يجهر بقراءته الملحونة، بل يقرأ بينه وبين نفسه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
• وليعلم قارئ القرآن ومتدبره أن للمعنى الصحيح شرطين:
أحدهما: أن تكون الألفاظ إفرادًا وتركيبًا تفيده على حسب عرف اللسان العربي بلا تكلف، مع التنبه على أن لسان العرب أوسع من المدون في علم اللغة وعلم العربية، فليلتمس ما يندّ وما يفوت من ذلك في الكلام العربي الثابت الصحيح، وأوله القرآن نفسه.
والثاني: أن يكون موافقًا لسائر أدلة الوحي غير مصادم لها، لأنها تتساند وتتكامل، ولاتتناقض ولا تتعارض، إلا أن يكون سوء في الفهم، أو سوء في القصد.
• وليعلم أنه يجوز أن تتعدد المعاني للفظ الواحد والجملة الواحدة، وتكون كل المعاني مرادة إن تحقق فيها الشرطان المذكوران.
• وأن معاني الآي أول ما تلتمس في آي القرآن المناظرة للآية المتدبَّرة في المعنى، والمشابهة لها في اللفظ، فهذا التشابه والتناظر أوسع أبواب الفهم والتدبر.
• وتلتمس في الأحاديث الصحاح وإن لم تذكر فيها الآية، وأولى إن ذكرت فيها الآية، وإن لم يكن كلامه ﷺ متجهًا إلى تفسيرها، لأن تفسيره للآي نادر، ولكن أغلب كلامه يصلح للاستدلال على المعاني، لأن كل ذلك يصدر من مشكاة واحدة، وقد امتزجت ألفاظ القرآن ومعانيه بكلامه وعمله وفهمه وبلاغه والإيحاء إليه ﷺ، ومن وظائفه أنه يبينه بكل ذلك، وليس ببلاغه وحده، وهذا باب من التدبر والتذوق عميق الغور، واسع المدى.
• ومن أبواب الفهم والتدبر توسّم المعاني في السياقات، وهي ثلاثة أنواع: السياق القريب فيما قبل الآية وما بعدها، والسياق البعيد في السورة جملةً، والسياق الأبعد في طائفة السور المتجاورة، فالنظم نسيج ملتحم في كل ذلك، ومعالم المعاني منثورة في كل ذلك، منصوبة للمتصفحين المتأملين.
• وليعلم أن السورة بناء واحد لها سمة وطبع في المعاني والألفاظ والتراكيب والفواصل وجرس الأصوات، فعليه تلمس هذه الخصوصية، وليعلم أنها في المعاني طبقات متراكبة أو متجاورة أو ممتزجة، أو تبدو لكل ناظر من جهة على نحو من الأنحاء، فليس حتمًا أن يكون معنى السورة واحدًا، بل هو في الغالب متعدد، فتصح أنظار المتدبرين وإن اختلفت، لكن أحرى الأنظار بالصواب ما كثرت شواهده، وجمع كل أجزاء السورة أو جلها. وهو متعدد أيضًا بشبكة العلاقات الكثيرة بالسور القريبة، وبالمعاني المناظرة في السور البعيدة.
• ومن قواعد التدبر أنه لا ترادف في الألفاظ أو التراكيب، بل لكل صيغة ونظم وأصل لغوي خصوصية في المعنى تقتضيها السياقات الثلاثة المذكورة، وتقتضيها مرادات القرآن، وتبيُّنها يكون بالتفقه في هذه الأبواب اللغوية، والتبصر في السياقات القرآنية، وهو باب واسع، ومنهل مورود، لكن التوفيق فيه حليف الصبر والبصر.
• ومن ينابيع المعاني المهمة أن يستحضر المتدبر أن القرآن نزل للزمن كله، فلينظر في كل آية ما الذي تفيده من معنى في يوم الناس الذي هو فيه، بعد أن جدت علوم وأوضاع وأحداث، فالآيات تجادل كل ذلك، وتشير إليه، وتخبر به، وتقوّم معوجه، وتنبه على ما فيه من خير أو شر. ولا شك أن لزمن النبوة مزية، ولذلك ذكر في القرآن مشاهد ومواقف من السيرة، لأنها زمن النزول، وزمن انطلاق الدعوة، واشتباكها بالواقع، فكان للقرآن تعقيبات وتوجيهات متصلة بالسيرة، كما فيه قصص للأقدمين من الأنبياء والأقوام والآحاد، وفي كل ذلك موضع للعبرة أو القدوة، وفيه أمثال، وللأمثال أمثال في الحال، أي أشباه في الأصناف والأحداث والأفعال والأقوال مستمرة متكررة. فليبحث المتدبر عن النظير لكل ذلك في يومه الذي هو فيه.
• وليعلم أن في القرآن علومًا غزيرة، وغيوبًا عزيزة، وأبوابًا كثيرة، فليوقن بكثرتها، وليتتبع ما يبدو له منها ملحقًا ببابه، وأظهر ما نعلم منها العلم بالله، من أسمائه الحسنى، ومثله الأعلى، وأفعاله وأقداره ووعده ووعيده وسنته، وما يرضى وما لا يرضى، وما يحب وما لا يحب، ومن يحب ومن لا يحب، والعلم بخلقه من العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما وما فيهما ومن فيهما، والملائكة والشياطين والجن والإنس والدواب والطير والشجر والجبال والماء والثمر والمرعى والبحار والنجوم، والعلم بأخباره عما خلا وسلف، من بدء الخلق، وسير الأنبياء، وسنة الأمم، ومصائر الأقوام، وأخباره عما يأتي من البشارات والنذر، وأشراط الساعة، وأهوال القيامة، وأحداث البعث والحشر والحساب والجزاء، وصفة الجحيم، وصفة النعيم، والعلم بشرعه وحكمه وما أمر به الخلق وما نهاهم، والعلم بموعظته وتذكرته.
ومن الواضح أني لم أذكر الأمثلة لهذه المعالم المذكورة، ولا الدليل على صحتها، وإنما هذه المعالم قد عرفت من الأمثلة الكثيرة، وهي ما أرجو أن يتضمنها كتاب في ذلك إن شاء الله.
هذا مجمل الجانب العلمي في التدبر، وأما الجانب النفسي والعملي، ففيه قواعد:
• منها تزكية النفس بالتقوى، فموارد المعاني الربانية، وفتوح الفهم القدسية، لا تتنزل إلا على المحال المطهرة، وفي الأزمان الشريفة، وفي الأحوال المنيفة، فعلى قدر قوة النفس وطهارة القلب وسمو الهم، يكون الغوص على المعاني، والتوفيق إليها.
• ومنها كثرة الترداد والتلاوة والتأمل والتقليب والتثوير للقرآن كله، وللسورة منه، وللآية من السورة، وللجملة من الآية، وللفظة من الجملة، وللحرف من اللفظة، فهو كتاب عزيز لا يكون عطاؤه إلا بالإدمان والإدامة، والإلحاح وكثرة النظر والمعاودة، لا يمل المرء ولا يفتر ولا يستكثر، عالمًا أنه لن يحصل إلا على القليل من المعاني، وأنه لن يحيط بكل شيء، وهيهات هيهات، وإنما هي أنصبة مقسومة على قدر المشيئة والتوفيق والفتح.
• ومنها أن يعلم أن التدبر لا يُستغنى فيه عن كل أحوال للقراءة، فيتدبر تاليًا من حفظه، ويتدبر تاليًا بالنظر في المصحف، ويتبر سامعًا لتلاوة غيره، ويتدبر في تدبر غيره، ويتدبر خاليًا، ويتدبر في الجمع، وقائمًا وقاعدًا وعلى جنب، وهو لا يدري في أي حال يكون التفهيم، وفي أي وقت يأذن الله بالتعليم.
• ومنها أن يستحضر دائمًا أن هذا كلام الله -سبحانه- وأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، فيه علمه وحكمته ورحمته وموعظته وشفاؤه وهداه، فليتطلب كل ذلك، وأنه أحكم آياته وفصَّلها وبيَّنها، لا اختلاف فيه، ولا عوج، ولا يأتيه الباطل مما كان قبله، ولا مما جاء بعد نزوله، وإنما القصور في فهوم الناس وإقبالهم ورغبتهم وحرصهم واجتهادهم، فتحجب المعاني وتمنح، وتمسك الرحمة وتفتح.
• وليسأل الله ضارعًا أن يفهّمه ويعلّمه ويذكّره ويرقّيه ويزكّيه، فلا يكون شيء من ذلك إلا به، وإن ظن في نفسه القدرة، وغفل عن افتقاره وضعفه وجهله، وُكل إلى نفسه، وأُبعِد قلبه عن واردات المعاني، وبصيرته عن رؤية آيات المثاني.

في أيام من العشر الأواخر من شهر رمضان 1444هـ
نيسان 2023م
تاجوراء
مهند الكاش 2023/04/30
بارك الله فيكم شيخنا الفاضل
سعدالمجبري 2023/04/30
رحم الله والديك وزادك الله من فضله
((كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته ويتذكر أولوا الألباب ))

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  4965