الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

الإمام أبو عمرو الداني أديبا

محمد خليل الزَّرُّوق

بحث

تاريخ النشر: 2023/03/22
اقرأ للكاتب
الإمام أبو عمرو الداني أديبا
مع تصحيح شيء من نصوصه


كلما قرأت في تآليف الإمام الداني أخذني الإعجاب بأسلوبه في التعبير، وبرَصْفه وتأنُّقه في مقدمات كتبه، وحيثما انفسح له المجال ليُبِين عن معانٍ غير معاني العلوم التي يضيق فيها مجال القول، وتكون الألفاظ فيها محدودة معلومة. وقد نظم أرجوزته التي سماها: "الأرجوزة المُنَبِّهة" في أصول القراءة وأصول الديانة، وزادت على ألف وثلاثمائة بيت، فجاءت سهلة اللفظ، عذبة النظم، رائقة المعاني بلا تكلف، أو كثير اضطرار، أو ألفاظٍ لم يدع إليها إلا الوزن.
وقد استوقفني في شرحه لقصيدة أبي مُزَاحم الخاقاني (248-325هـ) التي أولها:
أقول مقالًا مُعْجِبًا لأولي الحِجْر * ولا فَخْرَ، إنَّ الفخر يدعو إلى الكِبْر
(شرح قصيدة الخاقاني 9)
تنظيرُه لبَيْتٍ من أبياتها ببيت لعلي بن الجَهْم (-249هـ) الشاعر العباسي، قال أبو عمرو: "وهذا المعنى الذي قصده أبو مزاحم في هذا البيت مما دلَلْنا على صحته - قد سبقه إليه علي بن الجهم الهاشمي، ومن هناك أخذه، وعلى عَروض تلك القصيدة وقافيتها عَمِل قصيدتَه هذه في القُرَّاء وحُسْن الأداء، قال علي بن الجهم:
فما كلُّ مَن قاد الجيادَ يسوسُها * ولا كلُّ مَن أجرَى يُقال له: مُجْرِ
(ديوان علي بن الجهم 146)
وقال أبو مزاحم:
فما كلُّ مَن يتلو الكتابَ يُقيمُه * ولا كلُّ مَن في الناس يُقرئهم مُقْري
فلعمري لقد صاغ اللفظ بعينه، واستوفى المعنى بأسره" (شرح قصيدة الخاقاني 146)، فلم يكتف بأنَّ علي بن الجهم سبق إلى المعنى، بل جزم بأن الخاقاني أخذه منه، وأنه نسج قصيدته على منوال قصيدته الرُّصافية، وهي التي أولها:
عُيونُ المَهَا بين الرُّصافة والجِسْرِ * جَلَبْنَ الهوى مِن حيث أدري ولا أدري
وقال فيها وفي قائلها ابنُ شرف القيرواني (390-490هـ): "وأما علي بن الجهم فرشيق الفهم، راشق السهم، استوصل بشعره الشرفاء، ونادم الخلفاء، وله في الغزل الرُّصافية، وفي العتاب الدالية، ولو لم يكن له سواهما، لكان أشعر الناس بهما" (رسائل البلغاء 320. وانظر ما كتبه العلامة عبد العزيز الميمني في تحقيق اسم الكتاب الذي منه النص، في بحوث وتحقيقات 1/491، والنص نفسه في الذخيرة (عباس) لابن بسام 7/206، وقال في أول المنقول 7/196: "ولابن شرف مقامات عارض بها البديع في بابه")، ويعني بالدالية قصيدته في السجن إلى المتوكل، وأولها:
قالت: حُبِستَ فقلتُ: ليس بضائرٍ * حَبْسي، وأيُّ مُهَنَّدٍ لا يُغْمَدُ؟!
(ديوان علي بن الجهم 41)
وكان أبو عمرو -رحمه الله- قال في أول شرح القصيدة الخاقانية في ذكر السبب الداعي إلى شرحها: "والذي دعانا إلى شرح هذه القصيدة، وتلخيص معانيها، ما رأيناه من استحسان خواصِّ الناس وعوامِّهم لها، وشدَّة اهْتِبال قراء القرآن بها، وأخذهم أنفسَهم بحفظها، وسؤال أكثرهم عن معانيها، وما وقفنا عليه من إتقان صناعتها وسلامتها، وحسن سبكها، وتهذيب ألفاظها، وظهور معانيها، وسلامتها من العيوب، ووُفور حظِّها من الجودة" (شرح قصيدة الخاقاني 8)، وما قاله هنا يدل على حسن تذوُّقه للشعر، وجودة نظَره في الأدب، وتمييزه لمراتب الكلام، فلا يقول هذا إلا من كان كذلك.
(1) وقد عارض قصيدةَ الخاقاني أبو الحسين المَلَطي (-377هـ) (محمد بن أحمد بن عبد الرحمن. معرفة القراء الكبار 1/143، وغاية النهاية 2/67) بقصيدة أولها:
أقول لأهل اللُّبِّ والفَضْلِ والحِجْر * مقالَ مُريدٍ للثواب وللأجر
وأسأل ربي عفوَه وعطاءه * وطَرْدَ دواعي العُجْب عنيَ والكبر
(غاية النهاية 2/67)
وقد أثبَتَها أبو عمرو في ختام شرحه للخاقانية لقلة وجودها، وقال: "غير أن فضل قصيدة أبي مزاحم في الإتقان والجودة، وتهذيب الألفاظ، وتقريب المعاني، لا يخفى على من تأمَّل القصيدتين، وأنشد الشِّعْرين، ممن له أدنى فهم، وأقل تمييز، فضلًا على من خُصَّ من ذلك بحظٍّ وافر، ومُنَّ عليه منه بنصيب كامل" (شرح قصيدة الخاقاني 540)، فوازن بين القصيدتين، وفضَّل الخاقانية، وأحال في ذلك على تذوق الشعر، والبصر بألفاظه ومعانيه.
(2) وعارضها أبو عبد الله اللَّالَكائي (محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن يعقوب. غاية النهاية 2/85، كان حيًّا سنة 388هـ، انظر طبقات القراء لابن السَّلَّار 151) بقصيدة أولها:
لك الحمد يا ذا المَنِّ والجود والبِرِّ * كما أنت أهلٌ للمحامد والشكر
وفي أواخرها:
فهذا مقالي واضحًا وبيانُه * شبيهًا بما قد شاع في كل ما مصر
عَنيتُ به قول ابن خاقان منشدًا: * شبيهًا بما قد شاع في كل ما مصر
(غاية النهاية 2/86)
(3) وعارضها محمد بن يوسف بن محمد بن إسحاق أبو عبد الله الخراساني، قال ابن الجزري: "وكان في أواخر الأربعمائة" (غاية النهاية 2/287)، وقال في قصيدته فيما نقل ابن الجزري:
ألا إن أولى القول في كل ما يجري * فمبدؤه بالحمد لله والشكر
ويا حامل القرآن طوبى لك استمِعْ* فضائل من يتلو القُرَان ومن يُقري
(4) وقَصَد إلى تكميلها والتذييل عليها أبو الحسن الحُصْري القيرواني علي بن عبد الغني (-488هـ) (ترجمته في غاية النهاية 1/550)، فأنشأ قصيدته في قراءة الإمام نافع، وقال في مقدمتها: "لما رأيت قصيدة أبي مزاحم موسى بن عبيد الله الخاقاني المقرئ -رحمه الله- تَقْصُر عن كثير من معاني أصول القراءات وفروعها... صنعت هذه القصيدة" (القصيدة الحصرية 86)، وأولها:
إذا قلتُ أبياتًا حِسانًا من الشعر * فلا قلتُها في وصف وصْلٍ ولا هَجْر
(5) ونسج على منوالها الإمام الشاطبي (538-590هـ) في قصيدته في الفواصل المسماة: "ناظمة الزُّهْر"، وأولها:
بدأتُ بحمد الله ناظمةَ الزُّهْر * لتَجْنِي بعون الله عينًا مِن الزَّهْر
فالذي دلنا على أن أصل ذلك كله في المعارضة، واحتذاء الوزن والقافية، قصيدةُ علي بن الجهم الرصافية - هو الإمام أبو عمرو الداني، رحمه الله.
ولا أغادر هذا الموضع حتى أبيِّن قول أبي عمرو في شرح الخاقانية: "وشدة اهتبال قراء القرآن بها"، فقد عدَّى الاهتبال بالباء، والمعروف في اللغة أن "اهتبل الشيء" يتعدى بنفسه، بمعنى انتهزه واغتنمه (تهذيب اللغة 6/307)، وتحيَّر فيها ناشر الشرح، وهذا من لغة الأندلسيين والمغاربة، يضمِّنون "اهتبل" معنى "اعتنى"، ويُعَدُّونه بالباء، وقد قال أبو عمرو نفسه في المقنع: "... فإنَّ ظاهر ألفاظه ينفي ورودَه عن عثمان -رضي الله عنه- لما فيه من الطعن عليه، مع مَحَلِّه من الدِّين، ومكانه من الإسلام، وشدة اجتهاده في بذل النصيحة، واهتباله بما فيه الصلاح للأمة" (المقنع 115).
وفي "مختصر التبيين" لتلميذه أبي داود بن نجاح (413-496هـ): "... فقِسْ على هذا كله، واهتبلْ به" (مختصر التبيين 2/40-41)، وهو كذلك في أربع نسخ من نسخ النشرة (وهي ست، وفي النسخة المرموز لها ب: "ابتهل" بتقديم الباء، وهذا لا يضر)، فترك ناشرُه هذا، وأخذ بما في النسخة (م) عنده، وهي كتابٌ آخرُ اختصره مختصرُه من كتاب أبي داود وزاد عليه أشياء من كُتُب أُخَر (مختصر التبيين 1/375)، وفيها: "واهتد به".
وأقدم من وجدته استعمله من المغاربة عَريب بن سَعيد القرطبي (كان حيًّا سنة 331هـ، انظر التكملة لكتاب الصلة 3/459، والذيل والتكملة 3/118) في صلة تاريخ الطبري، قال: "وتابَعَ المعنَى واهتبلَ به جدًّا" (صلة تاريخ الطبري 27)، وتجد هذا في كتابة ابن عبد البر (368-463هـ) (في التمهيد 5/229)، وابن حزم (384-456هـ) (في الإحكام 5/106)، وغيرهما من الأندلسيين، بل في كتابة المغاربة العصريين كالشيخ الطاهر بن عاشور (1296-1393هـ) (في التحرير 3/141)، والبشير الإبراهيمي (1306-1385هـ) (انظر آثار البشير الإبراهيمي 3/110).
وقد ذكر هذا الاستعمال "دُوزي" في معجمه (تكملة المعاجم العربية 11/2)، وليس من عادته أن يميِّز الجهة التي يكون فيها الاستعمال، غير أنه أخذه عن مصادر أندلسية، ومنها معجمٌ يُظَنُّ أن مؤلفه راهب عاش في القرن الثالث عشر الميلادي السابع الهجري عمل في تنصير المسلمين، ولعله ألَّفه لهذا الغرض (تكملة المعاجم العربية 1/20).
وفي مقدمة كتاب "جامع البيان" قال أبو عمرو: "وإذا اتفق عاصم وحمزة والكسائي قلتُ: قرأ الكوفيون، طلبًا للتقريب على المُلْتَمِسين، ورغبةً في التسهيل على الطالبين"، وتحرَّف في المطبوع إلى: "للتقرير على الملتبس" (جامع البيان 1/92. وما في المطبوع أقبح من ذلك فنصه: "طلبًا في الأصل "للتقرير" على الملتبس"، فجعل الطالب قوله: "في الأصل" في المتن، وجعل أحد اللفظين المحرفين بين حاصرتين، كأنه على ثقة من الآخر!)، وهو تحريف شنيع، وسوء قراءة لما هو واضح في الأصل، وهو نسخة نور عثمانية من الكتاب، وهذه صورته:

وهذا الموضع من جامع البيان يقابل قوله في أول التيسير: "وإذا اتفق عاصم وحمزة والكسائى قلت: قرأ الكوفيون طلبًا للتقريب على الطالبين، ورغبة فى التيسير على المبتدئين" (التيسير 3). فلا بد من التفطن إلى أسلوبه الأدبي في المزاوجة، ومن الاستدلال ببعض كلامه على بعض.
ومن خطأ مقدمة "جامع البيان" المطبوع أيضًا قوله في وصف الكتاب: "يذكِّر المقرئ الثاقب، ويُفْهِم المبتدئ الطالب، ويَخِفُّ على الناسخ، ويكون عونًا للدَّارس"، تحرَّف في المطبوع إلى: "يفهم المبتدئ الطالب، ويخفِّف على الناسخ"، فزيدت فاء في "يخف"، ونُقصت واو من "ويُفْهِم"، وهو بَيِّنٌ في أصله:

وقد روى أبو عمرو كلمة للإمام نافع أعجبه معناها ولفظها، وكان من خبرها أنه: "جاء رجل إلى نافع فقال: تأخذ عليَّ الحَدْر؟ فقال نافع: ما الحدر؟ ما أعرفها، أسمِعْنا. فقرأ الرجل، فقال نافع: الحدرُ -أو قال: حدرُنا- ألا نُسقط الإعراب، ولا ننفي الحروف، ولا نخفِّف مشدَّدًا، ولا نشدِّد مخفَّفًا، ولا نقصُر ممدودًا، ولا نمُدَّ مقصورًا، قراءتُنا قراءة أكابر أصحاب رسول الله ﷺ، سهلٌ جَزْلٌ، لا نمضغ ولا نَلُوك، نَنْبِر ولا [نَبْتَهِر]، نسهِّل ولا نشدِّد، نقرأ على أفصح اللغات وأمضاها، ولا نلتفت إلى أقاويل الشعراء، وأصحاب اللغات، أصاغرُ عن أكابر، مَلِيٌّ عن وَفِيٍّ، (مَلِيٌّ: ثقة، وأصله الهمز فأُبدل. وقال أبو ذؤيب الهذلي:
أدان وأخبره الأولو * ن أن المُدان المليُّ الوفيُّ
وهو هنا بمعنى الغنيّ. ديوان الهذليين 1/65)، ديننا دين العجائز، وقراءتنا قراءة المشايخ، نسمع في القرآن، ولا نستعمل فيه بالرأي" (جامع البيان 1/482، والتحديد 91، وشرح قصيدة الخاقاني 132)، قال أبو عمرو في التعليق على هذا القول لنافع: "وحُقَّ لمن تكلم بهذا الكلام، وحَبَّر هذا اللفظ، أن يكون إمام مدينة رسول الله ﷺ، مخصوصًا بذلك دون غيره"، وقال في التعليق عليه في التحديد: "هذا كلامُ مَن أُيِّد ووُفِّق، ونُصر وفُهِّم، وجُعل إمامًا عالمًا، وعلَمًا يُقْتَفى أثَرُه، ويُتَّبع سَنَنُه" (التحديد 91). وانظر إلى قوله: "وحَبَّر هذا اللفظ"، فجعل سياقته على هذا النحو، ورَصْفه بهذا اللفظ، تحبيرًا مُعجِبًا، ولفظًا مونقًا.
وههنا في النص وقع تصحيف، وذلك قوله: "ننبِر ولا نبتهر"، وقع في شرح الخاقانية وجامع البيان وتذكرة ابن غلبون: "ننتهر" (التذكرة في القراءات الثمان 107) من "نهر"، وصوابه من "بهر"، ووقع على الصواب في التحديد، أي لا نبالغ، فمعنى "ابْتَهَر": بالغ في الشيء (تهذيب اللغة 6/286).
وفي قول الخاقاني:
ألا فاحفظوا وَصْفي لكم ما اختصرتُه * ليدري به مَن لم يكن منكمُ يدري
جوَّز أبو عمرو أن يكون قوله: "ما اختصرته" بدلًا من "وصفي"، وأن يكون خبرًا لمحذوف، أي: هو ما اختصرته لكم (شرح قصيدة الخاقاني 178)، والأوضح من ذلك والأسهل، وهو المتبادر، أن يكون "ما" مفعولًا بالمصدر الذي هو "وصفي".
وقال أبو عمرو: "والذي أستحسنه أنا في التلقين ألَّا يُزاد فيه على خمس شيءٌ" (شرح قصيدة الخاقاني 263)، فبدَّله ناشر الكتاب إلى: "شيئًا"، وقال: "الأصل: شيء". وهذا شيء عجيب! مع جوازه في العربية، ولكن ما في الأصل هو الأظهرُ والأسْيَر في الاستعمال.
وقال في هذا الموضع: "وأستحب للمُتَصَدِّرين ألَّا يأخذوا في العرض أزْيَد من جزء من أجزاء ستين"، والمُثْبَت في المنشور: "المُصَّدِّرين"، هكذا بهذا الضبط، وهو مع جوازه في العربية ليس على مراد المؤلف، لأننا لم نجده استعمله في كتبه، ولكنه يقول: "المتصدرين" على المألوف، كقوله في أول التيسير: "ويتضمن من الروايات والطرق ما اشتهر وانتشر عند التالين، وصحَّ وثبَت عند المُتَصَدِّرين" (التيسير 2)، وينبغي حملُ بعض كلامه على بعض، وقراءتُه على المعروف من استعماله وطريقته.
وفي هذا الموضع أثبت الناشر: "فليُلَقِّنْه ما يحتمل من آية أو آيتين أو ثلاثة (كذا)"، مع أنه لم يقل مثل هذا في كل هذا الفصل، وجاء فيه نظائر لهذا، فكيف انفردت هذه الجملة عن سائر ما قال؟ وقبله بقليل: "فإن رأى أنه يقوم بخمس لقَّنه إياه"، وبعده بقليل: "كانوا يلقِّنون الآية والآيتين والثلاث والخمس، ويأخذون على أصحابهم الخمس والعشر...".
وفي نشرة شرح الخاقانية أيضًا في شرح إخفاء الحركة، وهو الاختلاس: "المستتر من الحركات هو معظمهن، إذ كنَّ لايُشبَعْنَ إذا أُريد بهن ذلك فيظهرن كوامل، لا يضعف الصوت بهن ولا يُتَمّ، حتى ربما خفين على السامع، فتوهَّم لشدة التضعيف وإخفاء الصوت أنهن ذهبن رأسًا" (شرح قصيدة الخاقاني 309).
وصواب هذا: "بل يُضَعَّف الصوت بهن"، ولا يستقيم المعنى إلا بهذا، ونظيره قوله في التيسير: "لأن الحركة لا تُسَكَّن رأسًا، بل يُضَعَّف الصوت بها" (التيسير 127-128).
وفيها أيضًا: "ومعنى الإشباع... أن يُؤتى بالضمة والكسرة والفتحة كدليل على هيئتهن من غير اختلاس لهن يؤدي إلى تضعيف الصوت بهن فيَخْفَيْن" (شرح قصيدة الخاقاني 465).
وصوابه: "أن يؤتى بالضمة والكسرة والفتحة كوامل"، كما في النص المنقول قبل هذا، ونظيره قوله في التحديد: "فأما المحرك من الحروف بالحركات الثلاث: الفتحة والكسرة والضمة فحقُّه أن يُلفَظ به مُشْبَعًا، ويُؤتى بالحركات الثلاث كوامل، ‌من ‌غير ‌اختلاسٍ ولا توهينٍ يؤولان إلى تضعيف الصوت بهن" (التحديد 41).
وفيها أيضًا: "والخيشوم هو خرق الأنف المنجذب إلى داخل الفم، لا المتحد" (شرح قصيدة الخاقاني 499)، وصوابه: "لا المَنْخَر".
وأما الأرجوزة المنبهة التي أشرت إليها في أول هذه الكلمة ففيها كثير من النظم الرائق، ومن المواضع المعجبة، في ما قصَّه من تاريخ القرآن، أو ما وصف به أهله، أو ما وعظ به القارئ، أو ما شرح به المسائل. فمما قصَّه خبر الجمع الأول للمصحف على عهد أبي بكر، رضي الله عنه، قال:
لمَّا تُوُفِّيَ رسولُ الله * صلَّى عليه دائمًا إلهي
ووَلِيَ الصِّدِّيقُ أمْرَ الأُمَّهْ * مِن بعد ما جَرَتْ أمورٌ جَمَّهْ
ارتدَّتِ العَرَبُ في البلدان * وأَعلَنتْ بطاعة الشيطان
ومَنعت فريضة الزكاةِ * وفَرْضُها قُرِنَ بالصلاةِ
رأى خليفةُ النبيِّ المصطفى * جهادَهم فريضةً وشَرَفا

وقال عند ذلك الفاروقُ * مقالةً أيَّدها التوفيقُ:
إني أرى القتل قد استحرَّا * بحاملي القرآن واستمرَّا
وربما قد دار مثلُ ذاكا * عليهمُ فعُدموا بذاكا
فاستدركِ الأمر وما قد كانا * واعمل على أن تجمع القرآنا
وراجعَ الصِّدِّيقَ غير مرَّهْ * فشرح الله لذاك صدرَهْ
فقال لابن ثابت إذ ذاكا: * إني لهذا الأمر قد أراكا
قد كنتَ بالغداة والعشيِّ * تكتبُ وحْيَ الله للنبيِّ
فأنت عندنا من السُّبَّاقِ * فاجمع كتاب الله في الأوراقِ
ففعل الذي به قد أمَرَهْ * معتمِدًا على الذي قد ذكره
... إلخ (الأبيات 152-173)

ومن صفته للقراء الأئمة السبعة:
فهؤلاء السبعة الأئمه * همُ الذين نصحوا للأمه
ونقلوا إليهمُ الحروفا * ودوَّنوا الصحيح والمعروفا
وميَّزوا الخطأ والتصحيفا * واطَّرحوا الواهي والضعيفا
ونبذوا القياس والآراءَ * وسلكوا المحجَّةَ البيضاءَ
في الاقتدا بالسادة الأخيار * والبحث والتفتيش للآثار
... إلخ (الأبيات 258-262)

وقال في صفة المعلم الذي يؤخَذ عنه القرآن واختلافُ القراء في حروفه:
فإن رغبتَ العَرْضَ للحروف * والضبطَ للصحيح والمعروف
فاقصد شيوخ العلم والروايه * ومَن سما بالفهم والدرايه
مِمَّن روى وقيَّد الأخبارا * وانتقد الطرق والآثارا
وفهِم اللغاتِ والإعرابا * وعلِم الخطأ والصوابا
وحفظ الخلاف والحروفا * وميَّز الواهيَ والمعروفا
وأدرك الجليَّ والخفيَّا * وما أتى عن ناقل مرويَّا
وشاهد الأكابر الشيوخا * ودوَّن الناسخ والمنسوخا
وجمع التفسير والأحكاما * ولازم الحُذَّاق والأعلاما
وصحِب النُّسَّاك والأخيارا * وجانبَ الرُّذَّال والأشرارا
واتَّبعَ السُّنة والجماعه * وقام لله بحسن الطاعه
... إلخ (الأبيات 480-489)

وقال في شرح كيفية قراءة لفظ (تأمنَّا) في سورة يوسف:
والكل قد قرأ بالإشمام * -وهْو الذي يُسمع في الإدغام-
في قوله: (ما لك لا تأمنا) * وذاك إخفاءٌ كما بينَّا
إذ ضمة النون هي المُشارُ * بها إلى النون، وذا المختارُ
وبعضُ من يُبْصر [أو ينصر] علمَ النحوِ * يُومِي إلى ضَمَّتها بالعُضْوِ
وذاك في الحقيقة الإشمامُ * فهْو على مذهبه إدغام
(الأبيات 781-785)
وانظر إلى حسن التقفية بلفظي: النحو والعضو.

وقال في شرح ألف الوصف مع لام التعريف ودخول همز الاستفهام عليها:
والألفات اللَّاءِ قبل اللام * جِئْنَ -نحوُ: القول والكلام-
للوصل، يُفتحن في الابتداء * خلافَ ما في الفعل والأسماء
والمَدَّة التي للاستفهام * في ألفات الوصل عند اللام
هي التي تذهب عند الوصل * جيء بها ممدودة للفصل
والفرقِ بين لفظ الاستخبار * ولفظِ من يقصد للإخبار
... إلخ (الأبيات 1185-1189)

وقال في بيان التجويد والحث عليه:
مِنْ ألزمِ الأشياء للقُرَّاء * تجويدُ لفظ الحرف في الأداء
وكلُّ حرفٍ من حروف الذِّكْرِ * مما جرى مِن قبلُ وما لم يجر
فحَقُّه التفكيكُ والتمكينُ * وحكمُه التحقيقُ والتبيينُ
فاستعملِ التجويدَ عند لفظكا * بكلِّ حرفٍ من كلام ربِّكا
فعن قريبٍ بالجزيل تُجزَى * وبنعيم الخلد سوف تَحظى
قد جاء في الماهر بالقرآن * من الشفاء ومن البيان
ما فيه مَقْنَع لمن تَدَبَّرهْ * بأنه مع الكرام السَّفَرهْ
... إلخ (الأبيات 1250-1256)

وانظر إلى بديع قوله في البيت 752:
وقد شَرَحْنا أصلَه في ذاكا * في كُتْبنا، فخُذْه من هناكا
أو قوله في البيت 786:
وقد تكون في الحروف عِلَّهْ * تُزيل عنها الادِّغام كلَّهْ
أو قوله في البيت 494 في حق المعلم:
فحقُّه من أوكد الحقوق * وهَجْرُه من أعظم العقوق
فقرن بين "الحقوق" و"العقوق"، وبينهما الجناس الناقص، مع ما بين الحاء والعين من التقارب.
وهذه الأرجوزة على فضلها لم تَشِع لها نشرة مُتقَنة، وقد ذكر الشيخ عبد الهادي حميتو سنة 1421هـ = 2000م أنه حققها الدكتور حسن وكَّاك في أطروحة للدكتوراه في دار الحديث الحَسَنية في الرباط بعنوان: "منبِّهة الشيخ أبي عمرو الداني"، وقال: "لم تَعرف طريقها إلى النشر بعد" (معجم مؤلفات الحافظ أبي عمرو الداني 14). وذكر أبو عبد الله العاصمي في تعليق على منشور (عنوانه: الأرجوزة المنبهة لأبي عمرو الداني) في ملتقى أهل التفسير في تاريخ 18 من ذي القعدة سنة 1431هـ الموافق 25/10/2010م أن عمله نُشر، ولم أره.
وأما النشرة المتداولة -وهي من نشر دار المُغْنِي في الرياض سنة 1420هـ = 1999م وعناية محمد بن مجقان الجزائري- فغير متقنة، وفيها كثير من الكسر في الوزن ومن التحريف.
فمثلا البيت 196:
متى اختلفتم في الكتاب فارجعوا * خلافَكم إليَّ لا تُضَيعوا
والمثبَت: "في الكَتْب"، وقال: "كذا في الأصل، وفي س: الكتاب، وكلاهما صحيح"، أقول: وإنما يصح وزنه بـ "الكتاب".
وفي البيت 214:
من جِلَّة الصحابة الكرام * المرتضَيْن السادة الأعلام
وضبط "المرتضين" بكسر الضاد على أنه اسم فاعل، وهو بفتحها على أنه اسم مفعول، مثل (المصطفَين) في سورة ص.
والبيت 532:
ليس له شِبْهٌ ولا نظير * ولا شريكٌ لا ولا وزير
ضبطَه: "شَبَه"، ولا يستقيم الوزن إلا أن يُضبط: "شِبْه".
وفي البيت 666:
هن ثلاثٌ فأَخَفُّهُنَّهْ * النصب، والرفع أشدُّهُنَّهْ
ضبطه: "فأخْفِهِنَّهْ"، على أنه فعل أمر، وصوابه: "فأَخَفُّهُنَّهْ"، على أنه أفعل تفضيل، ومقابله في الشطر الثاني.
وفي البيت 708:
عند ادِّغام النون في الحروف * كالرَّوْم والإشمام في الحروف
ضبطه: "عند إدغام"، وصوابه: "عند ادِّغام" بوصل الهمز وتشديد الدال. ومثله في البيت 720:
أن يُقلبا ميمًا بلا ادِّغام * في اللفظ في القرآن والكلام
ضبطه: "بلا إدغام"، وصوابه: "بلا ادِّغام" موصول كالأول.
وفي مواضع يكون ضبطه مخالفًا للنحو، كالبيت 738:
مجتمَعٌ عليه فالتزمْهُ * ويصعُب البيان إن تَرُمْه
ضبطه: "أن تَرُمْهُ"، بفتح الهمزة، وكيف يستقيم مع الجزم؟ وصوابه: "إن تَرُمْهُ"، بكسرها.
وفي البيت 768:
والواو إمَّا تَلْقَ واوًا مثلها * اُدُّغمت منفتحًا ما قبلها
كتبه: "تلقى" بإثبات الياء، وهو مجزوم، بـ "إما"، فهي: "إن" و"ما"، مع أن الوزن ينكسر بإثبات الياء.
وفي مواضع يكون الصواب في إحدى النسختين ثم يحيد عنه، كما في البيت 556:
وعن قريب منهمُ يُنتقَمُ * ومن مضى من صحبهم سيندمُ
جعَله: "منهمْ سينتقمُ" بهذا اللفظ وهذا الضبط، وهو منكسر، وذكر أن الصواب في إحدى نسختيه، وفي الأصل كُتب الصواب فوق السطر مع علامة التصحيح.
وفي البيت 813:
والهمَزات بعدَ حَرْف اللِّين * يَزِدْنَ في التمطيط والتمكين
وهو عنده: "بعد حروف"، وهو منكسر، وأشار في الحاشية أنه في الأصل على الصواب، فترَكه وأخذ الخطأ.
وفي البيت 849:
وكلُّ هذا نقلُه صحيحُ * فاقرأْ به، فكلُّه فصيح
وهو عنده: "أَنْقُلُه"، وذكر في الحاشية أن في إحدى النسختين الصواب.
فالإمام أبو عمرو -رحمه الله- كانت عبارته عالية، ونظمه مُحكَمًا، وحقيق أن يقوم على نشر كتبه وكتب الأئمة من يجوِّد إخراجها وضبطها على ما أراد مؤلفها، وأن يستوثق مما في الأصول، وأن يوازن في معرفة صحة العبارة بين ما في يديه وما في كتبه الأخرى، فالمواضع تتناظر، والمعاني تتشابه، والمسائل تعاد، فليستعن ببعضها على بعض، وليفقه طريقته وعادته، فإنه إن فعل ذلك -مع الصبر والبصر بالعربية- وُفِّق إليه الصواب، إن شاء الله. ولا يليق بهذه الكتب الأمهات أن تكون نشَراتها نازلة عن أقدارها في العلم، وعن منازل مؤلفيها في الفضل، والله المستعان.
وهؤلاء العلماء الأئمة الذين جمعوا العلمَ فيما تخصصوا فيه، والعلمَ بالعربية، وكانوا في الأزمنة الأولى، واللسانُ في جِدَّته وفصاحته، والملَكات متمحِّضة للعربية، لم تدخل عليها عُجْمة، ولم تكدِّرها هُجْنة، يُعَدُّون قدوةً في العلم وفي الأدب، ولم يكن لهم هذا البَصَر النافذ في العلوم -بعد توفيق الله وبعد اجتهادهم وتحصيلهم- إلا لذوقهم في اللسان العربي، وتضلعهم منه، وحسن فقههم فيه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
والله أعلم

______________
طبعات المراجع المشار إليها
(1) آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1997م.
(2) الإحكام في أصول الأحكام، لابن حزم، تحقيق أحمد محمد شاكر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1347هـ = 1928م.
(3) الأرجوزة المنبهة، لأبي عمرو الداني، تحقيق محمد بن مجقان الجزائري، دار المُغني، الرياض، 1420هـ = 1999م.
(4) بحوث وتحقيقات الميمني، محمد عزير شمس، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1995م.
(5) التحرير والتنوير، لابن عاشور، الدار التونسية للنشر، تونس، 1984م.
(6) التحديد في الإتقان والتجويد، لأبي عمرو الداني، تحقيق غانم قدُّوري، دار عمَّار، عمَّان، 1421هـ = 2000م.
(7) التذكرة في القراءات الثمان، لابن غلبون، تحقيق أيمن رشدي سويد، الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن، جدة، 1412هـ = 1991م.
(8) التكملة لكتاب الصلة، لابن الأبَّار، تحقيق بشار عوَّاد، دار الغرب الإسلامي، تونس، 2011م.
(9) تكملة المعاجم العربية، لدوزي، ترجمة محمد سليم النعيمي، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، 1397هـ = 1976م.
(10) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، لابن عبد البر، تحقيق بشار عوَّاد وآخرَين، مؤسسة الفرقان، لندن، 1439هـ = 2017م.
(11) تهذيب اللغة، للأزهري، تحقيق عبد السلام هارون وآخرين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، القاهرة، 1384هـ = 1964م.
(12) التيسير، لأبي عمرو الداني، تحقيق أوتوبرتزل، جمعية المستشرقين الألمانية، إسطنبول، 1930م.
(13) جامع البيان، لأبي عمرو الداني، مخطوط بمكتبة نورعثمانية، برقم 62.
(14) جامع البيان، لأبي عمرو الداني، تحقيق جماعة، جامعة الشارقة، 1428هـ = 2007م.
(15) ديوان علي بن الجهم، تحقيق خليل مردم بك، المجمع العلمي العربي، دمشق، 1369هـ = 1949م.
(16) ديوان الهذليين، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1364هـ = 1945م.
(17) الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لابن بسَّام، تحقيق إحسان عبَّاس، دار الثقافة، بيروت، 1417هـ = 1997م.
(18) الذيل والتكملة لكتابَي الموصول والصلة، للمراكشي، تحقيق إحسان عبَّاس وآخرَين، دار الغرب الإسلامي، تونس، 2012م.
(19) رسائل البلغاء، محمد كرد علي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ط3، 1365هـ = 1946م.
(20) شرح قصيدة أبي مزاحم الخاقاني، لأبي عمرو الداني، تحقيق غازي بن بنيدر العمري، نشر إليكتروني، وأصله رسالة ماجستير في جامعة أم القرى سنة 1418هـ = 1997م.
(21) صلة تاريخ الطبري (ملحق بتاريخ الطبري، وهو الجزء 11 منه)، لعَرِيب بن سَعيد القرطبي، تحقيق أبي الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، 1969م.
(22) طبقات القراء السبعة، لابن السلَّار، تحقيق أحمد محمد عزوز، الدار العصرية، بيروت، 1423هـ = 2003م.
(23) غاية النهاية في طبقات القراء، لابن الجزري، تحقيق برجستراسر، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1351هـ = 1932م.
(24) معجم مؤلفات الحافظ أبي عمرو الداني، عبد الهادي حميتو، الجمعية المغربية لأساتذة التربية الإسلامية، آسفي، 1421هـ = 2000م.
(25) معرفة القراء الكبار، للذهبي، تحقيق بشار عوَّاد وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1408هـ = 1988م.
(26) مختصر التبيين لهجاء التنزيل، لأبي داود بن نجاح، تحقيق أحمد شرشال، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، المدينة المنورة، 1421هـ = 2000م.
(27) المقنع، لأبي عمرو الداني، تحقيق محمد أحمد دهمان، مطبعة الترقي، دمشق، 1359هـ = 1940م.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  5163