الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

الأغراض

يحيى أحمد محمود

قصة

تاريخ النشر: 2022/08/09
اقرأ للكاتب
في يوم من الأيام انضمت فتاتان عربيتان طيبتان إلى المكان الذي كنت أسكن فيه. كنت ألقاهما في صالة المبنى بين الحين والآخر، نتجاذب أطراف الحديث، أحدثهم بأعجب ما جرى لي وأصعب ما لقيت من الفراق، ويحدثانني عن بلديهما.
وفي أحد الرمضانات قررت الفتاتان عمل إفطار جماعي للمسلمين في المبنى، وتصادف أن كنت مدعوًا للإفطار في ذلك اليوم فاعتذرت. قالت إحداهما: خلاص، سوف نترك لك نصيبك مع فلان الفلاني. قلت لها: كتر ألف خيرك، وتقبل الله منا ومنكم.
ذكرت لكم هذا الموقف لكي تعلموا أنني كنت أتعامل بسلاسة.
وفي يوم من الأيام انتهت إقامتي في هذا المسكن وعزمت على الرحيل إلى ولاية أخرى، وتبقت معي بعض المأكولات البسيطة (زيت وأرز ومكرونة ومعلبات إلخ) فقلت لنفسي: أتركها للفتاتين، هن أولى من الغريب. فأبلغت إحداهما بذلك.
ويبدو أن عرضي هذا قد أصاب المسكينة بكرب ما بعد الصدمة. أرادت ألا تحرجني وفي الوقت نفسه أن تفهمني أنها بنت أصول ولا تقبل الشفقة أو المكرونة. ارتبكت ثم قالت لي: سوف آخذ ما أحتاج وأترك ما لا أحتاج. حاولت أن أخفف عنها لأن الأمر هين وهذا السلوك شائع وكلنا أخوة وكلنا نحب القمر والقمر بيحب مين؟ لكنّ أبواب الجحيم كانت قد انفتحت، وانتهى أمري.
حاصرتني الفتاة بالرسائل عن "الأغراض". أصبحت ترسل لي تقارير يومية عن توزيع هذه الأغراض: أخذت زجاجة زيت فقط وتركت الباقي. سوف أبحث عمن يأخد بقية الأغراض. الأغراض ما زالت معي. لا أعرف ماذا أفعل ببقية الأغراض. أعطيت كيسًا من الأرز للاجئة فيتنامية. وزعت علبة صلصة على فلان الفلاني. فعلت لا أعرف ماذا.. أكلت دماغي.
كنت حينها أتنقل بين المساكن المؤقتة في ولاية جديدة ومستقبل غائم. كنت أعيش في حالة من القلق والتململ وأخوض معركة لا أحد يعلم عنها شيئًا، وكل صباح أصحو على رسالة عن الأغراض. أصابتني تروما من كلمة "الأغراض".
لم أندم في حياتي قط على أي شيء سوى منح هذه الأغراض لتلك الفتاة (طبعًا ندمت في حياتي كثيرًا، لكنني أستخدم هذه الكذبة لـ"أغراض" بلاغية) ولو كنت أعلم الغيب لرميت تلك الأغراض في الزبالة وريحت نفسي من هذا الصداع، لكن لا حذر ينجي من القدر.
على كل حال، توقفت في النهاية عن إرسال التقارير، وأظنها عادت إلى بلدها. وكرت السنون، وجرت في النهر مياه كثيرة، إلى أن استيقظت اليوم من نومي مشغولاً بسؤال واحد: يا ترى ماذا حل بالأغراض؟

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  8689