الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

الثمانون المباركات

فوزي بشرى

مقالة

تاريخ النشر: 2022/04/30
اقرأ للكاتب
متع الله أستاذ الأجيال البروفسور عبد الله علي إبراهيم بالصحة والعافية والوسامة الفكرية، التي ما علاها شيب ولامستها يد الزمن إلا كما تمس يد الغريبة مرآتها تطمئن كل مرة أنها في أبهى مرائيها في قول بديع لذي الرُّمة. وما زلت أجادل كثيرا من أبناء جيلي أن بروف عبد الله علي إبراهيم من أكثر العقول السودانية نشاطا وإبداعا ويقظة وفتوة، وهذه من نعم الله عليه وعلينا مستوجبة الشكر منه ومنا.
تميز بروف عبد الله بميزة لا تكاد تجد لها نظيرا بين الكاتبين، وهي أنه يتنقل في يسر آسر بين موضوعاته، فيكتب في عويص القضايا الثقافية والفكرية باليسر والإمتاع نفسه الذي يكتب به حين يدلف إلى الكتابة عن ذكرياته ومعارفه وأصدقائه وأقاربه، فيدنيهم منك أو يدنيك منهم، فإذا أنت شريكه في الذي يسرك من سيرتهم.
ولأستاذنا ميزة أخرى فات بها أبناء جيله ومن جاء بعده من المشتغلين بالهم العام، سواء في ممارسة السياسة أو في الكتابة عنها، وهذه الميزة هي انشغال بروف عبد الله وانخراطه في اليومي من القضايا كبيرها وصغيرها مما يرى (بعض الكاتبين أصحاب الأبراج العوالي) أنها ليست مما يجدر (بالمثقف الرفيع) الخوض فيها والوقوف عندها، بل هي (عندهم) مما يترك كواجبات يقوم بها عامة الكتبة والصحفيين. وهنا ستبدو لك عظمة عقل عبد الله التحليلي حين يأخذ ما يبدو عاديا من القضايا (فينفض عنها عاديتها) ثم يأخذك إلى رؤيتها كرة أخرى وقد (تحكرت) في سياقها فإذا هي من أمهات القضايا. وهذا باب في الكتابة عنوانه الجدة والطرافة ومؤونته النظر الثاقب الذي يرد المتفرقات والمتباينات (أول النظر) إلى مسائل يمسك بعضها برقاب بعض. وهذه رؤية إلى الأشياء تستنكف من الزحام على الورد المورود وتعاف مكرور التناول وزوايا النظر ما تريك إلا كل ما يراه غيرك مبذولا على قارعة الطريق.. تستطيع أن تجد هذا المنحى في كتابته الصحفية الراتبة أو في كتبه ودراساته المعمقة التي بحث فيها قضايا الثقافة والتعليم والقضاء والهوية فضلا، وهي جميعا قضايا السياسة الشائكة بصراعاتها العبثية التي تلتهم مستقبل البلاد قليلة السلم قليلة التدبر كثيرة الحروب. وجدة الكتابة وطرافتها عند أستاذنا عبد الله علي إبراهيم لا تأتي من (العين المبصرة و البصيرة الشوافة) بل من اللغة الجديدة الطازجة طزاجة ما احتوت من أفكار و تنبيهات و استدراكات ذكيات داعيات إلى مساءلة ما استقر واطمأن إليه الناس فتهزهم هزا، و تدعوهم إلى التفكير على كره من المشتغلين بالسياسة والقضايا العامة.
جدة اللغة وجدة التفكير أو المقاربات إن شئت، هي أهم ما يشغل عقل وقلب عبد الله الكاتب والباحث والمحقق. فأنت إن طلبت إسهام عبد الله علي إبراهيم في الثقافة السودانية لزمك أن تبحث في جدة فكره وجدة لغته وغير قليل من حس طرافة يشع بين السطور سمة أخرى في كتابته. انظر إلى عناوين أعمدته:
(لو كنت من مازن)، أو (الذي يصلحك) أو (ومع ذلك).. عناوين جاذبة لأنها جديدة فإذا رأيت عناوين كتبه البحثية أو مؤلفاته المسرحية وجدت الخصيصة المائزة نفسها :
• أنس الكتب، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1985.
• عبير الأمكنة، دار نسق بالخرطوم، 1988.
• الثقافة والديمقراطية في السودان، القاهرة عن دار الأمين، 1996 و1999 وطبعته الثالثة بالمطبعة.
• فرسان كنجرت: ديوان نوراب الكبابيش وعقالاتهم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دار جامعة الخرطوم للنشر، 1999.
الماركسية ومسألة اللغة في السودان، الخرطوم دار عزة للنشر 2001.
• الإرهاق الخلاق: إستراتيجية للصلح القومي، الخرطوم دار عزة للنشر 2001.
• الرق في السودان: نحو أنثربولجيا الخبر، القاهرة الدار العالمية للنشر، 2002.
• فيض الذاكرة: أحاديث في الأدب والثقافة مع الأستاذ عبد الله الشيخ البشير (بالاشتراك)، 2003.
• الشريعة والحداثة، القاهرة بدار الأمين، 2004 وطبعته الثانية بالمطبعة.
• صدأ الفكر السياسي السوداني، تحت الطبع بالقاهرة، دار الأمين.
• الجرح والغرنوق، الخرطوم 1981 و2003.
• تصريح لمزارع من جودة، منشورات نادي المسرح السوداني، 1991.
• الأصابع.. مجموعة قصصية.
اللغة آنية الفكر فيها يُصب، فلا تفكير خارجها واللغة يصيبها البلى وتفقد طلاوتها وبريقها من كثرة (السهك) حتى لا تعرف لها (طُرَّة من كتابة) ويكون ذلك شأنها عند أهل الصحافة، وعند كثير من المشتغلين بالكتابة والتأليف. فيلزم أكثرهم الدرب المطروقة، وهي درب يطمئن من يسير فيها طمأنينة الخلف بالسلف. والسلف لا يحيل إلى الدين فحسب، بل يحيل إلى اطمئنان الإلف في كل نشاط وشأن. وبروف عبد الله مفارق كبير (لإلف الطريق المطروقة) فهو (كاتب مبتدع) لمفردته ولقوالب سبكه ولنكاته ولتطريز كتابته الفصيحة بلآلئ من الدارجة، يتلاصفن وسط نظمه ويشرن إليه أنهن من بنات مفرداته الأصيلات. ولعل غاية ما يطمح إليه كاتب أن تشير إليه كتابته كأنها توقيعه في القراطيس ما يقلده أحد. جئني بأي صفحة من كتاب للكاتب العظيم جمال محمد أحمد، ما تشرع تقرأ أول سطر منها حتى تقول هذا جمال. من غيره يكتب هكذا.. تأمل إن أحببت في نثر البروف عبدالله الطيب وهو نثر عظيم، فإذا أنت أمام آية في الكتابة والفرادة في النظم وفي النجعات المراوحة بين ذهاب وعود؛ كأنه في طراد ممتع و غزلان المعاني ملء الأفق يشرق معها و يغرب. سيبلغ علي المك شيئا مثل ذلك وهو يزواج بين لغة جمال محمد ولغة عبدالله الطيب.
وفي ظني أن عبدالله علي إبراهيم قد بلغ في الكتابة مرتبة (الآيات) والفرادة حتى صح أن يقال هذا أسلوب عبدالله. وآية أخرى في كتابته تتجلى في هذا الأسلوب السهل الممتنع على غيره وهذه الجزالة والمتعة الفنية المتأتية من التراكيب الجديدة ومن زجه بمفردة دارجة، أو مثل أو قول مأثور فيدفع به على غير توقع من القارئ في تركيب جديد، فإذا هو يحيا حياة جديدة وقد خلع عنه أرديته القديمة.
وعبدالله الثمانيني يا هذا هو عابر للأجيال على نحو ما، فهو ابن وقته و (حنك زمانه). يكتب بحماسة أربعيني وإيمان وحكمة ثمانيني وقد يخصم من الأربعين عشرا، فيلقاك ابن ثلاثين فتيا يصول و يجول. وهذا مطلب تتقطع عنه الأعناق، أعناق الكاتبين والساسة فما يظفر منه أكثرهم بشي يا ( عمك).. وحيوية عبدالله الفكرية لا شك أنها ممدودة بنبع من المعارف لا ينضب ويمدها نبع من التجاريب ثرُّ. وكنت أقول له في أحاديثنا التي قربت مسافاتها الطوال وسائل التواصل إن نشاطك في الكتابة وفي المتابعة اليومية الدقيقة لمسيرنا الوطني المتعسر والمتعثر يرفعه آل ويهبط به آل لهو بركة في الوقت وفي العمر فأنعم بها من ثمانين مترعة بالحياة ومفعمة بالأمل كثيرة التفكر كثيرة التدبر غزيرة الإنتاج ما ضرها قلة الناص، ولا أنك لست من مازن. فكما صح أن الواحد يمكن أن يكون أغلبية بالأثر والفعل، فصحيح أيضا أن يبلغ من كان في همتك من مطلبه ما يريد بغير مازن ولو كان بنو اللقيطة بعضهم لبعض ظهيرا.
وبقيت كلمة ورجاء إلى زملاء البروفسور عبد الله علي إبراهيم في الجامعات وإلى طلابه وهم كثير وإلى قرائه، وهم أمة من الناس يتوزعون بين أجيال ثلاثة وإلى عارفي فضله من الكتاب والمبدعين أن هلموا إلى تكريم عبدالله جزاء ما قدم للسودان من عكوف محب متبتل منصرف إلى الكتابة في شؤونه وشجونه أكثر سنوات عمره المديد بإذن الله.
واسمحوا لي أن أدعوكم الى تكليف جماعة منكم تشرع من فورها في هذا الأمر، فما تزال الأمم بخير ما رعت حق علمائها عليها. وإن كان لي من اقتراح عليكم فهو أن يصار إلى تسمية جائزة علمية رفيعة باسمه في الدراسات الثقافية أو في الدراسات التاريخية تخلد ذكره واسمه في الناس فوق ما خلدهما هو بكتابة لن يبلى حبرها ولن يلحق الصدأ بكلماتها وقد جلاهن عقل وقلب الجلوة بعد الجلوة قبل أن (يقدلن) في القراطيس زاهيات.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  7115