الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

فهم البلاغة العربية

عبد السلام حيدر

مقالة

تاريخ النشر: 2022/04/19
اقرأ للكاتب
كان لأستاذ البلاغة في دار العلوم طريقة ظريفة في التدريس، فتجده يدخل علينا بقصة طريفة فيها لغز لا يُحل إلا بمعرفة البلاغة، كأن يحكي لنا مثلاً أن كتب الأدب تروي أن الفضل بن الربيع (وزير هارون الرشيد) استقدم أبا عبيدة معمر بن المثنى (ت. 210هـ)، وكان من أوسع أهل البصرة علماً باللغة والأدب والتفسير، لحضور مجلسه في بغداد. فلما حضر سأله إبراهيم بن إسماعيل الكاتب عن قوله تعالى: "طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ" (الصافات:65)، وقال لأبي عبيدة: "إنما يقع الوعد والإيعاد بما قد عُرف مثله، وهذا لم يُعرف".
ومعنى السؤال أن الله سبحانه يصف "شجرة الزقوم" بأن طلعها يشبه "رؤوس الشياطين". ولكننا لم نرَ تلك الشجرة، فكيف يشبهها القرآن بشيء لم نره أيضاً هو "رؤوس الشياطين".
فقال أبو عبيدة: "إنما كلّم اللهُ العربَ على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرئ القيس: (أيقتلني والمشرفي مضاجعي .. ومسنونة زرق كأنياب أغوال).
وهم لم يروا الغول قط، ولما كان أمر الغول يهولهم أُوعدوا به".
ولما استحسنوا إجابته أزمع أن يضع كتاباً في تفسير مثل هذا وأشباهه في القرآن، فلما أنجزه سمّاه "مجاز القرآن"؛ لأنه خصّصه للنماذج التي يجتاز فيها القرآن "المعتاد" إلى "غير المعتاد" لدى العرب، وكيف يفعل هذا، ولماذا يفعله؟
وهذه كما قد ترى حكاية ظريفة تضم بين جنباتها كل شيء في فنيات السرد تقريباً؛ ففيها دعوة وتحدٍّ بلغز، وحل للغز بطريقة مرضية تجعل للمرء هدفاً جديداً في الحياة ينجح في إنجازه أو تحقيقه ويخلد اسمه به.
وبعد ذلك كان يقول لنا إن هذا يُسمى "التشبيه"، وهو أهم مبحث في البلاغة كلها، وهذا النوع تحديداً يسمى "التشبيه الوهمي"؛ لأن عناصره لا تُدرَك بالحواس وإنما بالتوهم، فنحن لم نرَ الغيلان وأنيابها، ولم نر شيطاناً ولا شيطانة، ولا نعرف كيف تكون رأسه أو رأسها. ولكنهما رغم ذلك موجودان في أوهامنا، وكلنا نخاف من الشياطين، ومِن أُمنا الغولة التي ربما كانت نوعاً من الشياطين أيضاً.
ومن كثرة حضوري محاضراته، حتى في السنين التي لم يكن يدرس لي فيها، تداخلت الأحداث في بعضها البعض، ولكني رغم ذلك ما زلت أتذكر أول محاضرة لنا معه، ومنها عرفنا مباشرة نوعية هذا الأستاذ الجهبذ.
وفي هذه المحاضرة أفهمنا بداية أن علوم البلاغة ثلاثة: المعاني والبيان والبديع، وأن لأول عِلم منها وهو "المعاني" اسماً آخر، لو فهمناه سنفهم البلاغة ومعناها ووظيفتها، وهذا الاسم هو "النحو العالي"، فعلم المعاني هذا يقوم على النحو ويعلوه، فالنحو يركز على الصواب اللغوي، لكن علم المعاني يبدأ دوره بعد التأكد من الصواب اللغوي. وهنا ندخل في حكاية أخرى لا تنجلي إلا بمعرفة البلاغة، وهي حكاية المقارنة بين آية سورة الأعراف: (اضْرِبْ بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَاً) وآية سـورة الـبقـرة: (اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنَاً). وسبب ذلك أنك ستلاحظ أنه قال في الآية الأولى (انبَجَسَتْ) وفي الثانية (انْفَجَرَتْ) فما الفرق؟
الإجابة عن هذا السؤال توضح الفرق بين النحو والبلاغة، ولكن لا بد أن تعلم بدايةً أن لتكوين الجملة العربية طرقاً يشرحها علم النحو، فالجملة الفعلية تبدأ بالفعل، ثم الفاعل، ثم المكملات أو المتعلقات. أما الجملة الاسمية فتبدأ بالمبتدأ، فالخبر، ثم المكملات أو المتعلقات. فإذا جاءت الجملة على حسب ترتيبها الأصلي لا يُسأل عن سبب ذلك؛ لأنه الطبيعي والمنطقي، أما إذا خرجت الجملة عن الترتيب الأصلي المستقر، فهنا يأتي دور النحو بداية ليهتم بالجانب الشكلي أو البنائي للجملة، فيبحث أسباب ذلك الخروج.
فالنحو هنا يكون بمثابة حارس للجملة، الذي يحول دون فساد المعنى واستغلاقه. فإذا كان وضع الجملة ممكناً وصحيحاً فإن النحو لا يتجاوز هذه النقطة، وهنا تحديداً يبدأ دور البلاغة، تحديداً دور علمها الأول وهو "المعاني"؛ إذ لا بد وأن يكون لهذا الخروج عن الترتيب الأصلي المعتاد هدف لا يتحقق من دونه، وإلا كان من قبيل اللغو أو الإلغاز، أو الفضول.
وإذا عدنا للآيتين نجد أن النحو لا يميز بين (انفجر) و(انبجس)، فكلاهما بالنسبة للنحو فعل ماضٍ مبنيّ وفقط، ولكن أهل البلاغة تساءلوا: لماذا فُضلت (انْبَجَسَتْ) في "سورة الأعراف" بينما استخدمت (انْفَجَرَتْ) في "سورة البقرة"؟
وكان الرجل يعرض لنا ذلك بسلاسة، ومن خلال ما جاء في التراث البلاغي عن الموضوع ولا ينسبه لنفسه، فقال لنا إنه توجد إجابات بلاغية كثيرة عن هذا السؤال، أفضلها في رأيه إجابة ابن الزبير الغرناطي، الذي قال: "طلبهم ابتداء، فأشبه الابتداء الابتداء، وطلب موسى غاية لطلبهم؛ لأنه واقع بعده ومرتب عليه، فأشبه الابتداء الابتداء، والغاية الغاية، فقيل جواباً لطلبهم: (فانبجست)، وقيل إجابة لطلبه: (فانفجرت)، وتناسب ذلك، وجاء على ما يجب، ولم يكن ليناسب العكس".
ومعنى الكلام أن طلب الناس من نبي هو طلب أولي يوافقه التعبير بكلمة (انْبَجَسَتْ) التي تصف بداية خروج الماء، لكن طلب هذا النبي من الله جلت قدرته هو طلب تالٍ أقوى ويناسبه التعبير بكلمة (انْفَجَرَتْ).
تصور أن هذا الرجل كان يسير على هذا النمط العالي دوماً ولا ينزل عنه أبداً، وكل حكاياته تقول دون ريب إن البلاغة علم قرآني مركزي، وهي بالتالي علم مركزي لفهم التراث العربي كله.
وعندما سافرت وبدأت أراقب المستشرقين عن قرب، عرفت أن مشكلتهم المستعصية هي "عدم القدرة على تذوق البلاغة العربية"، لذا لم أقابل مستشرقاً متخصصاً في البلاغة قط، رغم أنهم جميعاً مهتمون بالدراسات القرآنية مع وجود هذا النقص الخطير.
وبعد ذلك فهمت شيئاً غريباً، فهمت لماذا تعد البلاغة علماً أساسياً ومركزياً في التراث العربي الإسلامي، بينما هي هامشية جداً في الدراسات الاستشراقية! وأن هذا أمر متكرر. بمعنى أنك تجد الاستشراق يهتم بأمور هامشية لم يكن لها أهمية ولو ضئيلة في سياق التراث العربي الإسلامي، بينما يهمل شيئاً مركزياً كالبلاغة، على سبيل المثال يهتمون جداً بالشخصيات القلقة الملحدة، ماسينيون مثلاً كتب دراسة ضخمة تمتد لعدة مجلدات عن "الحلاج"، مع أن الرجل -حسب رأيي بالطبع- لم تكن له هذه الأهمية في سياقه التاريخي، ولم يكن له تأثير طاغٍ كالذي تسبب فيه ماسينيون بدراسته تلك.
وقد تابعناهم -أي المستشرقين– في هذا فاهتممنا بالهوامش والمهمشين، وتركنا الأصول المهمة مهملة فتشوَّهَ علمنا بتراثنا، تصور مثلاً أن المتنبي رغم عظم قدره وتأثيره المستمر لم ينل عندهم عُشر ما ناله الحلاج، وأنا أفهم الآن لماذا، ببساطة لأن المتنبي طاغية بلاغي للعامة والخاصة، بينما الحلاج رجل تصوف وفلسفة وألغاز لخاصة الخاصة!
وفي الفترة التي درست فيها الجماعات المتشددة في العصر الحديث وجدت أن أغلب المنتمين إليها ممن درسوا العلوم التجريبية كالطب والهندسة لم يدرسوا العلوم العربية بشكل منظم، وبالتالي فهم غير ملمين بعلوم البلاغة، بل إن معرفتهم بالإسلام حدية، لأنهم تلقوه عمن لا يعرف علوم البلاغة، ولو درسوها وعرفوها لفهموا الإسلام بشكل أفضل، ولما تشددوا. فالبلاغة تكون لدي من يعرفها جيداً قدرة أعلى على التذوق والفهم، ومن يتكون لديه مثل هذا الذوق البلاغي الرفيع لا يمكن أن يكون متشدداً أو متطرفاً.
والآن كلما درّست البلاغة تذكرت أستاذي "حسن طبل"، الذي لا أعرف ماذا فعل الله به، وأنه وضع في أيدينا مقياساً مهماً لتقييم المتخصصين في الإسلاميات، وهو أن البلاغة علم قرآني أساسي، وأن من يدعي التخصص في العلوم الإسلامية ولا يتقن البلاغة علمه ناقص.

#المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  1248