الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

الهجرة إلى البصرة

عصام المجريسي

مقالة

تاريخ النشر: 2021/11/23
اقرأ للكاتب
ورد (الزهد) مرة واحدة في القرآن: (وكانوا فيه من الزاهدين) سورة يوسف آية 20؛ تحكي حال الإخوة يوم يريدون إفراغ وجه أبيهم من محبة أحدهم بإخلاء المكان من يوسفَ سببِ ذلك الامتلاء والبهاء والحب، كانوا يرونه زاهداً فيهم وهم في الراغبين.
جاء في حديث سهل بن سعد الساعدي في رجل جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- [يريد أن يجمع بين المقامين المتباعدين والامتلاء بالحب من كل شيء] فقال الرجل: "يا رسول الله، دلني على عملٍ إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس"! رجل يريد حب الله وحب الناس جميعاً معاً! يريد مقام محبة الله، ومقام محبة الناس، كيف يجتمعان مقاماً لإنسان؟! والمرء لا تنطوي نفسه على محبة مقام منهما إلا على سخط الآخر. لكن قد يوجد في ملكوت النفوس العالية ما لا تستطيع النفوس الهابطة إدراكه!
قال له صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس". الحديث (31) من الأربعين النووية.
الأمر إذاً من الممكن عقلاً، ومن الجائز شرعاً. والمسألة أشبه بتوحيد المقامات، لتنتظم المعادلة! هو حديث يوجه ضربة علاجية إلى صميم ذلك الوباء المتكتل في زحام مُعْدٍ على المراتب الدنيوية والتنافس الشرس على الملذات. وذلك من جهتين:
- جهة نفسية وهي جهة (طلب الدنيا).
- وجهة مادية وهي جهة (ملك الدنيا).
في رحلتك إلى (البصرة)، قبل أن تعرج على أي شيء، تجد أناساً من الزاهدين يبيعون أدوية قديمة قدم أعشاب العطارين لمثل تلك الحال الفردانية، ورحلتك هنا (مهاجرة) ذهنية قلبية، بريئة أو زاهدة، في سرديات الزمان والمكان والحدث، متلبسة أو غير زاهدة في إعمال الذهن والاستبصار والتوسم والتعلل وأنواع لا تنتهي من القبض والبسط والصراع والدفاع.
الحسن البصري، الإمام، المجاهد، ربيب بيت النبوة، وسيد أهل البصرة، قال: "لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك، ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك، وكرهوا حديثك، وأبغضوك".
في الواقع هم يكرهون كل منافس فيما يحبون، كراهةً غريزية حيوانية أشبه ما تكون بكراهة الفحول للفحول غير أن لا فحولة في تعاطيهم ولا رجولة، وتعبيرهم عن تلك الكراهية أشبه بالنطاح والصياح غير أن لا قرون في منطقهم ولا يحزنون، وتعاملهم في كل مرة أشبه ما يكون بتاجر البندقية غير أن اسمه ليس بــ(شيلوك) ودينه في البطاقة ليس غير الإسلام والغريزة حيوانية بالطبع؛ باعتبار أن الإنسان إذا تنازل عن صفاته الإنسانية تراجع إلى جنسه التكويني وتعريفه المنطقي: الإنسان حيوان ناطق.
وتجد علاجات كثيرة عند الزاهدين البصرين الآخرين: محمد بن سيرين، وأيوب السختياني، الخليل بن أحمد، وتجد أنواعاً أخرى عند الجاحظ وغيره من أهل البصرة، تتعلم ذلك قبل أن تخرج إلى بلد آخر وأنت تتعرف على حد الكلمة والكلام والشرط والأقسام والميزان والإدغام، فتتعلم نحو اللسان كما تتعلم نحو الجنان، وقبل أن تخرج إلى وادٍ جديد من أودية القول.
ومع ذلك، فلا تعجب ولا تستغرب من الناس الذين ستترك لهم الدنيا، إن تركتها، ولا تتطلع إلى ما في أيديهم، إن استطعت، أن يتركوك تعيش في خُصّك الخليلي؛ تعيش فيه عيشة الخليل بن أحمد تقرأ في ملكاتك وتتفكر في ملكوتك، تاركاً لهم الدنيا وهم يأكلونها أفاويقَ، بعلومك، إن كانت لك علوم، أو يأكلون أشياء أخرى من حقوقك، إن اعترفوا لك بحقوق!
فهاجِرْ.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  1192