الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

أنا لاجئٌ من جديد

أحمد بشير العيلة

شعر

تاريخ النشر: 2021/11/21
اقرأ للكاتب

رحلتْ أُمِّي
غابتْ أُمِّي
ماتتْ أمّي
فانهارتْ مُدُنٌ مِنْ نورٍ داخلَ رُوحي
وجسورٌ كانتْ تربطني بفلسطينْ
كانتْ تمتلكُ سماءً أوْسعَ مِنْ سَقْفِ بلادي
كانتْ تَهَبُ الليمونَ روائحَهُ حين تنادي
كانتْ شجرةَ زيتونٍ تتحدَّى ظُلْمَ الجَلّادِ
كانتْ تَرعى كُلَّ فراشاتِ فلسطينَ على ثوبٍ يعشقُها وقتَ الإنشادِ
يا ثوبُ
أغِثني؛ إنّي أفقدُ كلّ تطاريزِ بقائي فوقك
إنّي في عبثٍ أبديٍّ ضاعت منّي كلُّ الطرق المحمولةِ فوقَ قوافل فقدتْ سائسَها
خُذني مِنْ وجعي يا ثوب
طرِّزْني في أكمامكَ كيْ لا أَسْقُط في اللّاشيء
خُذني خيطًا يربط رُوحي بحكايا أمِّي
خذني يا ثوب
إنّي أرتعشُ مِنَ الحُزْنِ فدثِّرْني
أَذْكُرُ أنكَ كنتَ مَلاكًا يحرسُ أُمِّي
أذكرُ أنكَ كنتَ غِناءً يَحْمِلُ أمّي
أَذْكرُ أنكَ كنتَ بلادا تحضنُ أمّي
كيْ تعرف أسماءَ حبيبات الطلِّ الواقف فوق زهورٍ نَبَتتْ في الموّال
أذكرُ أنكَ كنتَ تُعيدُ بناءَ البهجةِ في طَلَّةِ أمّي
أذكرُ أنكَ كنتَ فضاءً وسماءً ونداءً
تاريخاً لِلمشمشِ وهْوَ يُغنِّي معها ما آتاه الله من الزجلِ الحُلو
أذكرُ أنكَ كنتَ تراهنُ أهلَ الأرضِ عليها
غابتْ أمِّي
ماتتْ أمِّي يا ثوب
ودخلتُ لُجوءًا آخرَ يقتُلني
إنّي أفقدُ كلَّ قُرايَ وكُلَّ المدنِ المحمولةِ في القلب
إنّي لاجئ
كانتْ كلُّ فلسطين تنامُ بعينيْ أمِّي
وجبالُ فلسطين على كتفيها
وسهولُ فلسطين تمرُّ سريعاً بين يديْها
كانتْ تصنعُ أغنيةً لِلريحِ لِيَحْرسَ أشجارَ الزيتون
كانت أمّي تدّخِرُ القدْسَ بأضلُعها
وتخبِّئُ أصواتَ القرآنِ بنبضِ القلب
وأسوارَ مدينتنا
والأحياء الأقدمُ مِنْ وجَعي
وكنائس تبكي مَرْيَمَها
أحياءً كاملةً في نابُلس
كانتْ ترفعُ أقبية الرُّوح
ليُصَلِّي كلّ نبيٍّ في حضْرتها
والناسُ جماعاتٌ خَلْفَ النور
كانت أمِّي سِدْرَتَهم
وتحيَّتهم
وكرامتهمْ
أمِّي كانتْ قِبلتهمْ

***

قد ماتت أمِّي
وطُرِدتُ من الجَنَّةِ أيضا
أينَ فلسطينُ الآن
لمْ أَعْرِفْ أنَّ فلسطينَ احتُلَّتْ إلَّا حينَ الأرض اختطفتْها مِنِّي
فبحثتُ عن الوطن المفقود
في داخلِ قبركِ يا أمِّي
كنتِ أنتِ فلسطين، كلّ فلسطين، ورحلتِ

***

آهٍ يا أمي
إني الآن بلا وطنٍ
ضاعت مني فلسطين
كيف سأبنيها فوق زجاج الرُّوح
كيفَ أعود إلى قريتنا الآن
كنتِ يا أمِّي قريتَنا
أحصد من حُبِّكِ ما أحتاجُ من القمحِ
أعصرُ زيتون الموسم بينَ مهاهاتك
وأحلّق في شوقكِ لي
أعلو فيكِ
أسكنُ فيكِ
أحيا فيكِ
وأرتبُ كلَّ صباحٍ ضوءًا يتساقط من لهفٍ فيكِ
أَغسِلُ رُوحي فيكِ
أجعلُ عُمُري نهراً يَحْمِلُ بسمتكِ للبيارات
أُجَمِّعُ نفْسي مِئذنةً في حُبّكِ
وحينَ أَمَلُّ من الدنيا
أُلقي جسدي طفلاً في بُستانك
وأجمّع نفسي تحت معالي قدميكِ
حيث تكون الجَنةُ بشرى

***

رحلت أمي
غابت أمي
ماتت أمي
كانت أجمل من كل الشهداء
كانت أمي كلَّ فلسطين
وأنا يا أمي الآن
لا شيء
لا شيء
لا شيء سوى كتلة طين


_______________
اللوحة المصاحبة: للفنان الفلسطيني رائد القطناني Raed Yousef Qatanani

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  7461