الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

أين الحياة الخاصة؟

يحيى أحمد محمود

مقالة

تاريخ النشر: 2021/08/21
اقرأ للكاتب
ثمة تحول غريب حصل في العالم لم ننتبه له بالشكل الكافي: فجأة صار لدى معظم أهل الأرض كاميرات! غيرت الكاميرا نظرتنا للحياة. انتقلنا من العيش إلى التوثيق. ومن التوثيق إلى المشاركة. ومن المشاركة إلى عرض كل شيء على الغرباء. ومن العرض إلى الاستعراض. انتهت الخصوصية أو كادت، وصار كل شيء مادة للاستهلاك والفضول، والحياة الخاصة ملكًا لجميع الناس.
الآن يمكن أن يتحول إنسان عادي يمشي في الشارع أو يشرب الشاي في بلكونة بيتهم، إلى ميم لأن أحدهم أخرج الكاميرا والتقط له صورة مجتزأة.
لكن ماذا عن "الحق في الاختفاء"؟ ماذا لو أراد الإنسان أن يترك وشأنه بعيدًا عن أعين المتطفلين ومستهلكي كل شيء.
الصراحة، ومع إدراكي لفوائد الكاميرات، لكن ذلك لا يشعرني بالأمان. في كل مكان ألف عين تبحث عن التهام الطريف والغريب. خصوصيتي وراحة بالي قد تكون ثمنًا لدفقة أدرينالين في عروق واحد معتوه.
أحب أن أحتفظ في نفسي بلحظات حميمية جدًا لا أشاركها أحدًا، ولا أسجلها سوى في ذاكرتي، وهي لحظات، على كل حال، لا يمكن التعبير عنها وإن أردت.
وكم مرة أكون في مكان ناء، فأقول لنفسي: هنا قد يطيب لي المقام بعيدًا عن كل هذه الضوضاء، ثم أرى السياح بكاميراتهم البغيضة ونفوسهم السطحية النهمة ورغبتهم الوحشية في استهلاك كل شيء أصيل وابتذاله ورميه بعد ذلك وأقول لنفسي: ها قد وصلوا هنا أيضًا. لا اختفاء في هذا العالم. لو دخلت كهفًا في غابة لوجدت السياح بحثًا عن كل غريب. وما أبرئ نفسي. أشعر بالخجل العميق إذا التقطت صورة في المجال العام.
لا يمكن الهروب من هذا العالم. عشرات الوسائل التي تربطك ربطًا. في لحظات السكينة لا أرتاح إلا بعد إغلاق وسائل التواصل كلها، وغلق الإنترنت نفسه والشعور بلحظة سكينة أنه لا يمكن الوصول إليّ الآن. وأتذكر الآن انزعاجي من الهواتف فور ظهورها ولوم أصحابي على غلق هاتفي.
عندما انتشرت الهواتف المحمولة، منذ وقت ليس ببعيد، كانت تحمل معها فكرة غريبة: ينبغي الوصول لأي إنسان في أي وقت. ينبغي أن يكون الواحد منا متصلا طول الوقت بكل الناس! لماذا؟ في بداية استخدامي للهاتف اتصل بي أحد أصدقاء الدراسة بعد منتصف الليل فأيقظني من نومي. وقال لي: (إزيك يا باشا؟!) أيقظني من نومي للدردشة! منذ ذلك اليوم صرت أغلق هاتفي وقت النوم ومعظم الوقت.
وبعد ذلك تغير مفهوم هذا التواصل الإجباري. صار من الطبيعي الآن أن تقابل إنسانًا في مكان ما لدقائق، ثم يصبح هذا الإنسان جزءا من حياتك إلى نهاية عمرك. تتابع آراءه وأخباره الدقيقة وتفاصيل حياته والوجبات التي أكلها. ولو تابعته على (تويتر) لتابعت خواطره أولاً بأول. كل ما يمر برأس هذا الإنسان من مخاوف وخطرات وتخاريف يطرحها على (التايم لاين) شيء مجنون جدًا!
آخر مرة أغلقت فيسبوك كنت في واحدة من أجمل المدن التي زرتها في حياتي. كنت أقضي وقتي على شاطئ المحيط محوطًا بالطيور والجمال ونسيم الهواء، ومع ذلك كان مزاجي معكرًا. لماذا؟ بسبب منشور تافه كتبه واحد قابلته مرة منذ سنوات وليس صديقًا لي ويقيم على بعد آلاف الأميال من مكاني! ظللت أفكر في ذلك المنشور طول اليوم. وبعد ذلك فكرت في أنَّ هذا الذي يحصل جنون! أن أفسد يومي لهذا السبب سلوك مخبول لا يقره عقل، فأغلقت حسابي.
والآن صارت تأتينا الأخبار من كل مكان. أخبار تعطينا مادة للكلام والثرثرة، لكن لا شيء يمكننا فعله حيالها. يزداد شعورنا بالعجز. يحمل الواحد منا العالم فوق رأسه كأنه مدير إدارة العالم. قرأت منذ قليل تغريدة لواحدة تشتكي من أننا نعيش في كوكب تحته حمم اللافا التي قد تنفجر في أي وقت وأن هذا شيء موتر.
ليست حمم اللافا هي الشيء الموتر، وإنما هذه الروشة والتشتت وطوفان المعلومات غير المفيدة وتضييع الأعمار فيما لا طائل تحته، هذا هو الجنون بعينه. وقد جاء في الحديث الشريف: "احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز".

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  3239