الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

بلاء الهاتف على القارئ

محمد موسى كمارا

مقالة

تاريخ النشر: 2021/07/10
اقرأ للكاتب
إن كان لا بدَّ من التّذكير والإعادة، فقد بيّنت في الكلمة السّالفة ما ينبغي أن يسلكه طالب العلم في التّعامل مع الكتاب، وهو أن يقرأه من جلدةٍ إلى أخرى، ملخّصًا للشّوارد، ومقيّدًا للفوائد، وألمحت إلى أنّه في حلٍّ من أمره في قراءة الكتاب، مقرونًا بغيره في فنٍّ آخر؛ حتّى يطرد عن نفسه الملل والسّآمة، ثمّ كشفت أنّ هذه الضّرورة الملزمة لكلّ قارئ أن يختم الكتاب، يُستثنى منها ما يلجأ إليه من المصادر والمراجع لإجراء بحثٍ معيّن، وتُستثني منها المجلّات التي لا يضطرّ إلى قراءة كلّ ما فيها من المقالات، ويُستثنى أيضًا، كلُّ كتابٍ يتبيّن له أنّه غير قادرٍ على هضمه وفهمه؛ لأنّه فوق مستواه عاليًا في سماء الإعجاز لقدرته العقليّة، وكذلك كلّ كتابٍ يظهر له أنَّه لن يستفيد منه شيئًا، وهو وحده المسؤول عن صواب هذا الحكم، وعليه أن يتحرّى فيه الإنصاف حتّى لا يجور على نفسه، فيصبح لا يفتح كتابًا إلّا طواه بحجّة عدم إفادته ونفعه، وهذا شرٌّ وبيلٌ يجب أن يتّقى!
بعد بيان تلك الكلمة، راسلتُ أحد أصحابنا المخلصين في أمرٍ، فظللتُ في انتظار ردّه على رسالتي ساعاتٍ طوالًا، حتّى توجَّست أنّه قد حلّت به قارعة من قوارع الدّهر، ثمّ أحسنت الظّنّ برحمة الله بصاحبي، فأتانى الرّد على تطاول الزّمن بينه وبين رسالتي، وقال لي معتذرًا: قد عاهدتُ نفسي على أن لا أفتح الهاتف من السّادسة صباحًا إلى الواحدة مساءً؛ حتّى أتفرَّغ للقراءة، وأركّز فيها، ومنذ التزمت بهذا العهد قاسيًا على نفسي، فإنّني قد شعرت بالتّقدّم في كثيرٍ من شؤون حياتي، فقلت له: قد علمت فالزمْ، واتّقِ شرّ هذه الزّواحف!
و(الزّواحف) في العربيّة مفردُه (زاحف)، وتُطلق هذه الكلمة على كلّ نباتٍ يغرز جذوره في الأرض، ثمّ يطلع زاحفًا على سطحها، كما تُطلق على كلّ حيوانٍ يدبُّ زاحفًا على بطنه، وإلى هذا الثّاني تعود الكلمة أوّل ما تعود إذا أُطلقتْ في هذه الأيّام، ولكن ماذا أجني أنا على هذه العربيّة الشّريفة الشّاعرة، إن قلت أيضًا: إنّ مواقع التّواصل الاجتماعيّ من الزّواحف؟ بل من الزّواحف الضّارّة المؤذية؟ لا أظنّني مذنبًا إن زعمت ذلك، ولا أظنُّ العربيّة ستنقم على أحد أبنائها لأنّه كاد أن يصرف بعض كلماتها عن دلالاتها الأصيلة؛ أليست هذه المواقع زاحفةً في كلّ مكان؟ تزحف بين أيدينا ونحن نأكل، ونشرب، ونحدّث، ونشاهد مناظر الطّبيعة وغير الطّبيعة؟ ثمّ استشرى شرُّها وبالًا مخيفًا فاتكًا، فصارت تصاحب طالب العلم وهو يقرأ ويكتب ويتأمّل، فقطعته عن العزلة وإن اعتزل النّاس، وجعلته لا يفهم وإن ادّعى الفهم، وسلبته أغلى شيءٍ ينبغي أن يحافظ عليه، وهو تزكيز الذّهن، ومنعُه من الشّرود!
وهذا الهاتف الرّنّان الصّاخب، الذي نبذل في أحدث أنواعه أموالنا وأرزاقنا، هو أكبر بلاءٍ نزلَ بأكثر طلبة العلم في هذا العصر؛ إذ صار لا يكفّ عن بعث الإشعارت إلى أذنيْه، فأضعف التّركيز وكاد يصيبه بالشّلل، وأضحى العقل دميةً راقصةً على أصوات الإشعارات التي يجلبها تعليقٌ هنا، وإعجاب هناك، ورسالة وافدة من أحد الأصدقاء عبر المواقع، وقد يكون هذا الشّخص المرسِل مجهولًا عندك كلَّ جهالة، ولكنّه يريد منك أن تردّ عليه فورًا كأنّه وليٌّ حميمٌ! هذا أيضًا من عجائب عصرنا الذي تتغيّر فيه الحقائق بلا حسابٍ للظّروف والأحوال، ويعدو فيه النّاس على الحقوق بلا حجّةٍ ولا برهانٍ، إلّا برهان أنّه قد صار صديقًا في القائمة!
وجرّاء كلّ إشعارٍ يهتزّ التّركيز ويتزحزح عن مكانه؛ لأنّه إمّا أن يفتح المرء هاتفه ليُدرك حقيقة ما أُشعر به، وذلك مبدّد للتّركيز، وجاعله هشيماً تذروه الرّياح، وإمّا أن يتغافل عن الإشعار بمرّة واحدة، وهو إن فعل ذلك، فلن يسلم من وسوسة الفضول والتّطلّع إلى الحقيقة المخبّأة تحت الإشعار، وذلك ضارٌّ بالتّركيز أيضًا بلا ريب، فلا يبقى أمامه، إن أراد لعقله تركيزًا، إلا إغلاق الهاتف وقليلٌ فاعله! ولا أظنُّ إنسان هذا الزّمان يفلح ما لم يكن متصرّفًا في نفسه وعقله، بالقدرة على الاستغناء عن الهاتف في أيّ وقتٍ أراد.
فاتّقِ شرَّ هذه الزّواحف، واقطع عنها أسبابك وقت القراءة، ولو شئت أن تكون مثل صاحبنا الذي قصصت عليك أمره، فتضرب لنفسك ساعاتٍ كلّ يومٍ، لا تفتح فيها هاتفك، ولا تبالي فيها ما دار من الأخبار، ولا ما ورد من الرّسائل، ولا ما انقطع من الاتّصالات، فافعلْ ذلك غير آسفٍ ولا متردّد، واعلم أنّ الوقت بضاعة طالب العلم، بل بضاعة كلّ إنسانٍ عاقلٍ، وأخطر شيءٍ يهدّد هذه البضاعة، ويرميها بالكساد والفساد، هو هذا الهاتف الذي بين أيدينا، وأنا لا أدعو النّاس إلى هجر هواتفهم؛ ليدخلوا كهوفًا مظلمةً لا يعلم بهم فيها أحدٌ، ولا يعلمون فيها عن أحدٍ، ولا أدعو أحدًا إلى عدم بذل قليلٍ من العناية، ينُجيه من الغفلة عمّا يجري حوله من أحداثٍ، ولكن الحذرَ الحذرَ من الإسراف والتّبذير، والحرصَ الحرصَ على إمضاء الوقت فيما يفيد وينفع.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  5952