الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

أديم (فلسفة التكوين)

محمد الصادق الخازمي

مقالة

تاريخ النشر: 2021/03/21
اقرأ للكاتب
في النقد الأدبي اعتدنا أن نلاحق الكلمات و الجمل، وأن نتتبّع الأساليبَ والسياقات، وأن نخرج من معنى إلى معنى آخر، وأن نربط بين ما كُتِب، وما أُهمِل، وأن نستشف من نظريات النقد ومناهجه ما هو أقرب إلى النصوص؛ لكني اليوم أمام مقالة لست أدري دافعي الحقيقي لكتابتها، أهي مجاملة صديق، أم تأثرٌ فعليٌّ بالفن، أم رغبة في تجاوز المألوف وخوض غمار نقد آخر لم آلفه؟
في معرض الخطّاط الفنان (محمد الخروبي) الذي اختار له عنوان (أديم) تتجلّى فلسفةٌ صريحة، ليست بغموض الفن التشكيلي المعتاد، إذ إنّ المؤلِّف دلف إلى موضوعه مباشرة من عنوانه العربي الفصيح: أديم.
أديم؛ حيث النشأة الأولى، والتكوين الأولي، هناك من الفُتات، والأصول، والتراب، والحديد، وترك التهذيب والتشذيب.
لم يثقِّف الفنان محمد الخروبي قصاصاته، ولم يتدخل في إكمال نواقصها، أو لملمة أديمها الممزّق، إنه يقدم لك الصورة كما هي، وعليك إن شئت أن تقبلها كما هي، بكل العرج، والجراح، والآلام، والإشراق أيضا.
تبدأ لوحات الخروبي من محاكاة صادمة للواقع، والفن محاكاة كما يقول أرسطو؛ بل إن المحاكاة «غريزةٌ فينا، شأنها شأن اللحن والإيقاع، وأكثر الناس حظًّا من هذه المواهب هم الذين تقدّموا فيها شيئًا فشيئًا، وارتجلوا...» (فن الشعر، أرسطو، ترجمة بدوي، 13-14)
الإبداع في أديم يبدأ في المادة نفسها، إذ هو معرضٌ أقيم من الطبيعة، وكلّ أدواته مصنوعة يدويًّا منها، حتى الغِراء الذي يَضُمّ أشياءه إلى بعضها منها. كان مضمونُ وحدة النشأة، والعودةِ إلى الأصل، واضحًا في مبتدأ فكرة المعرض.
إنها فكرة تقدم إليك لتخدعك قليلا، ثم تعود فترى أن تناسق اللوحات، وجمال ترتيب درجات لونها شيءٌ في غاية الفن والذوق، وهو جهد مشتقٌّ من نفس المؤلف، الذي تسامى على آرائه – وهو صاحب رأي- ليقدِّمَ فكرتي: الوحدة، والقبول؛ الوحدة: بالعودة إلى الأصل من المادة المتناثرة ف الأرض المعبّر عنها باللون أساسًا، والقبول بتقديمها بالصدأ، والأشلاء، والتشوّهات، إلى جانب الروعة، والجمال.
وكأنك تقرأ في المعرض سيطرة (الشعور الجمعي) من البدء، إنه يريد عودة ملحّة إلى (التكوين) والتكوين فيه النموذج أو النماذج العليا ، «وهي موروثٌ عتيق، يورث في أنسجة الأذهان، ودائما يجد طريقه إلى أذهان الفنانين... وكأنّ الفنّان بذلك وسيطٌ شفّاف لوجودنا البشري، بما يحمله [في فنه] من الشعور الجمعي» (منهج البحث الأدبي، شوقي ضيف، 115).
في منحى التشكيل بالحروف الذي انشغل به الخروبي أخيرا، يتجاوز فنُّ الخطّ تبعيّته المفرطة للكلمة واللغة، ويجعل من الأبجديّة وحدها رسالة قائمة، باللون، والتشكيل، والميول، والزوايا، والبروز، والإخفاء، لم يعد للفنان الذي خبر مفردات الأبجدية متعلقا بالجمل الشهيرة، والعبارات الرنانة، والحكم، وأبيات الأشعار، لقد عاد الفن على يدي أصحاب (الحروفيات) إلى الجزء الأصغر الذي بدأ منه كل نصّ، وحوّلوه هو نفسُه إلى نص كبير، ليس يُدرَك سوى بالتأمل، والمعاني التي ترسلها الظلال، وتوحي به الانحناءات، وتراوغك فيه الميولات.
لو شئت التأمل في (أديم) ستجد الألوان كلّها، ألوان (الأولمبياد)، صحيح سيحتل الأسود مساحة طفيفة جدا، على هامش اللوحة الثانية أو الثالثة، لم يرد الفنان أن يقف عنده طويلا، كأنه يخشى على معرضه الدلالات السلبية التي يبعثها؛ لكنّه يعوّض ذلك بالحديد الذي هو أصلٌ أيضا نزل من السماء، يتّخذ به شكلا يقارب (الشدّة) في أغلب اللوحات، لكن الأضلاع ليست سليمة في كل مرة، وكأنّه يشير إلى ما تحدثه (القوة) المستقاة من الحديد في أنفس الناس ومعانيهم، الحديد عندما يسلم ويتّجه إلى الأعلى فهناك قوّة الحق، وعندما يتجه يمينا، أو شمالا، أو ينكّس على رأسه، فهناك انحراف القوّة، وتبدّلات الموازين، هكذا أقرأ شيئا منه.
اللام ألف (لا) لازمةٌ في أغلب اللوحات، والخرّوبي مغرمٌ بهذه اللام ألف المغربية خاصة، يعشقها، وتتّجه يداه لرسمها من غير وعيٍ أحيانا، هل لذلك علاقة بالرفض عنده؟ أو هل يعني تمرّدًا وأنفة؟ أو يعكس شخصية قويّة مستقلة تأبى الاتّباع والتقليد حتّى في الفنّ نفسه؟
كلها احتمالات تنفتح على معاني القراءة، لكن (لا) وحدها تتكرر، وتحتل أسطرا كاملة، لتقول إنها تتكون من حرفين، هي نزعةٌ إلى الكلمة في ظل سيطرة الحرف الواحد، دعوة لكل الحروف أن تتشكّل لتكون اللغة الأسهل للعامّة.
ومع كل الخطّاطين يتماهى الخروبي مع (الواو) أيضا، إنها تشكل ميولا خاصّا، ونظرة وجدانية عميقة إليك، أو إليه، أو إلى مسؤول عنه لا يريد أن يصرّح باسمه؛ يكتفي بجزء من إشارة، بل بجزء من كلمة (هو) فانظر هذه الواو وتتبّعها فلعلك تصل به إلى معنى تريده أنت، ولا يريده الفنان.
اللون الوردي غريب في أديم هذه الأرض، يتشكّل بظروف خاصة، ويحمل جزءًا أنثويًّا مفقودا، في لوحات الخروبي يأتي متناثرًا، لكنه ليس مفرط التأثير، الفكرة في أن الخروبي لم يتجاهله، أو يحاول التمويه عنه، لقد قدّمه من ضمن ما يقدّم، شأنه في كل فكرة (الاعتراف) بكل شيء، والخضوع للواقع المحكي كما هو، وكل مساحات التأثير تضيق وتتّسع بحسب عيني المتأمّل المتذوق.
بقي أن اختيار المدينة القديمة بطرابلس لإقامة المعرض معنى آخر مضاف، لقد كان ممكنا أن يكون المعرض في أي جزء آخر من العاصمة، لكن المدينة القديمة تحمل دلالات التاريخ، وهي أنسب شيء لفكرة المعرض، وتستجيب لعفوية القِدَم التي تتخلّص من ( التزويق) و(الإخفاء) الذي لا يقتنع به الفنان، وقاعة باب البحر في شارع (الإسبانيول) فيها جزء من بقايا سجن قديم، ما زالت آثاره باقية، لن يكون الخرّوبي مغرما بشيء أكثر من ذلك، ولن يكون أكثر حظًّا من هذا التهيؤ الذي حصل لمكان العرض، ليقدّم قيمةً مضافةً إلى مضامين اللوحات...
يعوّل الخروبي على أثر اللوحة في القارئ، ولا يريد أن يقدّم قراءته الخاصة، أو أن يكشف عن مضامينه المخفية، يترك لك أن تتأثّر إن شئت، أو أن تتأمّل كيفما شئت، لن يخذلك المعرض، ولن تعود الفكرة عن اللون والجمال عندك قبل زيارته مثلها بعد الوداع.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  2709