الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

السِّيَر الذاتية

يحيى أحمد محمود

مقالة

تاريخ النشر: 2021/02/26
اقرأ للكاتب
النوع الأدبي المفضل بالنسبة لي هو السير الذاتية، التي أجد فيها من المتعة والفائدة ما لا أجده في غيرها.
تعجبني فكرة أن أقرأ لأشخاص من خلفيات مختلفة عاشوا في الحقبة ذاتها، فتتكون لدي صورة عن ذلك العصر. فقد عاش إدوارد سعيد والشيخ حسن الشافعي وعنبرة سلام الخالدي في حقبة واحدة تقريبًا لكن ما أبعد الفارق بين عوالمهم!
تؤثر طبيعة كل إنسان على الطريقة التي يرى بها حياته ويحكي بها قصته و"كل يرى بعين طبعه". ولكل سيرة ذاتية فكرة أساسية تمثل منظور الكاتب لحياته: فستيفن كينج يرى حياته من خلال الكتابة وكيف أثرت عليه، أما جيفري لانج فيحكي قصة حيرته وبحثه المضني عن الحقيقة، والدكتور المسيري سيرته هي سيرة الأفكار التي كونها. إنها سيرة إنسان شجاع يريد أن يفهم العالم، أما ابن خلدون فسيرته سيرة تعليمية قبل أي شيء، كما كانت سيرة إدوارد سعيد سيرة تعليمية: كيف شكلت المؤسسات التعليمية التي مر بها حياته وتصوراته ومواقفه. وما أعجب مرور ابن خلدون العابر على النكبات التي ألمت به مثل غرق أسرته وممتلكاته وهو في الغربة!
أما ابن بطوطة فقصته هي رحلة مسافر صوفي يبحث عن أولياء الله الصالحين، أحياء كانوا أو موتى، ويطارد الغرائب بفضول أنثروبولوجي وحب للحياة ومزاج رائق. وإذا كان ابن بطوطة يرى حياته من منظور الرحلة، فإن فيكتور كمبلر فيرى العالم من منظور اللغة. أنقذته مذكراته، التي هي من أجمل ما قرأت عمومًا، ويرصد فيها تطور اللغة النازية، تمامًا كما أنقذت الكتابة ستيفن كينج بعد الحادث الذي ألم به.
تكشف لنا السير الذاتية عن طباع أصحابها وأمزجتهم. فابن بطوطة رائق المزاج، لكن نفسه ممزقة بين حب الدنيا وحب الآخرة. وتجد الفارق بين النفس الراضية للشيخ عبد الحليم محمود صاحب أجمل عنوان سيرة ذاتية "الحمد لله هذه حياتي" وشعور المرارة السامة في سيرة ألبير ميمي الرائعة بعنوان "عامود الملح". تجد اضطراب نفس طه حسين وعزيمته التي لا تلين في مواجهة سجن العمى وقيود المجتمع، وطيبة الشيخ حسن الشافعي وتسامحه وسلامة صدره، والشخصية القوية الفذة المفعمة بالطاقة للحاج مالك الشباز، وتنتابك الرهبة عندما تقرأ أنه كان يشعر شعورًا يقينيًا بقرب اغتياله وأنه لن يعيش ليرى كتابه مطبوعًا، وقد كان. "سيرة إنسان في صراع مع الزمن" وأظن أن من كرامات هذا الرجل الصالح أن أتيحت له فرصة الانتهاء من كتابة مذكراته والتعبير عن نفسه وحكاية حكايته بلسانه قبل موته.
لكنَّ أغرب السير التي قابلتها سيرة الشيخ يوسف النبهاني، التي حملت عنوان "البشائر الإيمانية في المبشرات المنامية". إنها سيرة من نوع مختلف: سيرة منامية يحكي فيها عن الرؤى الصالحة التي رآها أو رؤيت له، وما جرى فيها من مقابلاته بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وبعض الأنبياء الآخرين صلوات الله عليهم، والصحابة والعلماء، وعلاقة كل ذلك بتفاصيل حياته. ولا أظن أنه يوجد مثيل لهذا النوع من السير، وهذه الدرجة من الاهتمام بالمنامات، في أي أمة أخرى.
وقد تأثرت كثيرًا بهذا الكتاب صغير الحجم فصرت أنظر للنوم لا على أنه مجرد راحة للبدن، بل وتحرر للروح أيضًا من أسر الجسم، فتقابل فيه ما كتب لها من المعارف على حسب رزق النائم وصفاء قلبه.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  3785