الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

في تفسير سورة الرحمن

محمد خليل الزَّرُّوق

بحث

تاريخ النشر: 2021/02/04
اقرأ للكاتب
سورة الرحمن في تفصيل ثواب المتقين في الجنة، ومفتاحها قوله -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين: "لن يُدخل أحدًا عملُه الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: لا، ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة"، نبهني على صلة هذا الحديث بالسورة الشيخ عبد الله الصديق الغماري في كتابه: جواهر البيان في تناسب سور القرآن.

وذكر الشيخ محمد عبد الله دراز في تسجيل صوتي أن السورة مقسمة قسمة ثنائية، فالآلاء قسم منها واقع في الدنيا، وقسم واقع في الآخرة، وما يقع في الآخرة قسم يقع في بدء البعث، وقسم يقع بعد استقرار الأمر ومصير كل امرئ إلى جزائه، ثم الجزاء قسمان قسم أهل السعادة، وقسم أهل الشقاوة، وأهل السعادة قسمان، السابقون لهم الجنتان الأوليان، وأصحاب اليمين لهم الجنتان الأخريان. هذا فحوى كلامه.

وعلى أن ما ذكره صحيح، فإني أرى أن المعنى أوسع من ذلك. فعادة القرآن أن السور يكون آخرها متصلًا بأولها، وقد قال الله في آخرها: (تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام)، و(تبارك) من البركة، وهي ثبات الخير وكثرته، فاسمه إذن الذي أسند إليه فعل البركة بصيغة التكثير (تبارك) هو (الرحمن) المبدوءة به السورة، والمسماة به. فالكثرة جائية من الرحمة التي هي وصف ذاتي لله دل عليه هذا الاسم، وهذه الكثرة متحققة بالزوجية في الدنيا والآخرة، ولذلك ما ترى السورة كلها مبنية على معنى التثنية، لا في القسمة التي ذكرها الشيخ دراز فقط، كما أن الخلق إنما كثروا وتناسلوا من ذكر وأنثى هما آدم وزوجه، والعرب تعبر عن التكثير بالتثنية، قال امرؤ القيس:
يفاكهُنا سعدٌ ويغدو لجمعنا * بـمَثْنَى الزِّقاق الـمُتْرَعات وبالـجُزُرْ
أي الزقاق الكثيرة.
وفُسِّر قوله تعالى: (ولقد آتيناك سبعًا من المثاني) بالفاتحة، لأن آياتها سبع تُكرَّر في الصلوات، ووصف الله القرآن كله بأنه مثاني، فقال: (الله نَزَّل أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني)، لأنه ثَنَّى فيه الأمر مرارًا، أي كرَّره. وهو أيضًا يُرَدَّد ويعاد، فتحصل كثرة بهذا الترديد في الأجر، وفي الأثر الدنيوي من التحصين والتذكير، ومن التدبر والفهم للمعاني التي تبدو مرة بعد مرة، ويظهر منها مع تكرار التلاوة ما لا يظهر بالمرة الواحدة. وسنرجع إلى سمة التثنية في سورة الرحمن.

وإذ قد بدئت السورة باسم الرحمن، وهي في معنى الرحمة ولا سيما الرحمة الأخروية بجزاء المتقين بالجنة، فإن الله تعالى سمى الجنة باسم الرحمة في قوله: (وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون)، وفي حديث الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا"، وفي معناه حديث سلمان -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم، وفيه: "فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة". فالرحمة الكاملة في الآخرة باكتمال الأجزاء المائة.

ولا شك أن من الرحمة ومن الآلاء الإنذار والتذكير بما يكون يوم القيامة حتى يأخذ المرء عُدَّته ويقدم لنفسه ما يريد لها. ومن الرحمة الإمهال والتأخير ليوم الحساب ولآجال الخلق، حتى يرجع الشارد، ويستذكر الناسي، ويستعتب المسيء. ومن الرحمة إقامة القسط يوم القيامة بمجازاة المجرمين بما قدمت أيديهم، فإن النفوس طماحة إلى العدل، وإحقاق الحق، وشفاء الصدور، وذلك لا يتحقق كاملًا في الدنيا.

ومن الرحمة مجازاة المتقين بما صبروا وقدموا لهذا اليوم الذي كانوا يوعدون، ومن الرحمة أيضًا إنزالهم منازلهم بتمييز ذوي الدرجات العلا من الذين يلونهم، وذكرت هذه السورة والتي تليها سورة الواقعة للمتقين درجتين، وهو أيضًا من القسط المأمور به الناس في الدنيا، ويحكم الله به بين عباده في الأخرى، كما قال: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط)، وقال: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين)، وقال: (والوزن يومئذ الحق).

ولهذا المعنى تجد في صدر السورة توكيد معنى الميزان: (والسماء رفعها ووضع الميزان. ألا تطغوا في الميزان. وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان)، فكرره ثلاث مرات، ولم يكتف بالأمر بالقسط، بل نهى عن الزيادة والنقصان، فكأنه أمر بالقسط ثلاث مرات، مفردًا وبالنهي عن ضديديه إخسارًا وطغيانًا.

ثم تأمل كيف عدَّى الطغيان إلى الميزان بـ (في)، وعدَّى الإخسار إلى الميزان بنفسه، ذلك لأن الطغيان للذي يزن ويريد أخذ الزيادة له أو لغيره، ويتخذ الميزان وسيلة لذلك، فهو الطاغي، وطغيانه في الميزان، أي هو وسيلته، فنُهي عن ذلك، وأما الإخسار فعلى صاحب الحق، ويقع على الميزان، فنُهي عن إخسار الميزان، وهو مفيد لإخسار صاحب الحق بالتضمن.

وذكرت السورة جزاء المحسنين من المتقين، وهم الذين قال فيهم: (ولمن خاف مقام ربه جنتان)، ودلنا على إحسانهم قوله في ختام شرح جزائهم: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟)، وجاء وفي الحديث المشهور تعريف الإحسان بأنه: "أن تعبد الله كأنك تراه"، فكيف سيكون إقامة الإنسان للقسط في الحقوق إذا كان يستحضر أن الرقيب عليه هو الله، وهذا الاستحضار يكون كأنه يراه؟ وكيف سيكون إتقانه لعمله، وإحسانه في تقربه إليه؟ لا شك أنه سيبلغ الغاية، على تفاوتٍ في الناس وفي الأوقات. على أن شرح السورة لجزاء هؤلاء جاء مفصَّلًا كأنك تراه أيضًا في تفصيله وتنويعه وتبيينه.

ومن الواضح أن الرحمة الكبرى -وهي الأخروية- سببها الوحي، وهو القرآن، وهو سبب الرحمة الدنيوية أيضًا، وقد وصف الله القرآن بأنه رحمة في مواضع كثيرة، منها: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)، (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك). ولذلك جاء تعليم الله القرآن خبرًا عن اسم الرحمن، وقدمه على خلق الإنسان، لأنه الأهم والمعتنى بشأنه، ثم هو سبب الجزاء الأخروي المفصَّل في السورة، ولولا هو ما عرف الإنسان طريقه السديد في الدنيا -وهي قصيرة- الموصِّل إلى حياة الكرامة الأبدية، حيث يقابل الساعات القليلات الأجور الدائمة لا انقطاع لها، فهو ليس ثمنًا، ولكن الله برحمته جعله سببًا، ولذلك لا يدخل أحد الجنة بعمله، ولكن برحمة الله الرحمن.

ولولا أنه خلقه ما كان، ولذلك ثنَّى بالخلق، ثم ثلَّث بتعليم البيان، والبيان غير النطق، لأن النطق يكون بما يُبين وما لا يُبين، فالبيان للمعاني، وهو مستلزم للتعقل والتفكر، ومستلزم للتواصل الأفقي والعمودي، أي في العصر نفسه، وفي العصور المتعاقبة، بعد أن يذهب أهل العصر وتبقى آثارهم مكتوبة، أو محفوظة بالتسجيل كما نعرف اليوم.

وبهذا كان تعليمه البيان من أخص خصوصياته، وهي تشمل كل ما تميز به الإنسان، من تعقل وتواصل، ولولا البيان ما نفع عقل ولا فكر ولا علم، لأنه يكون كالعدم، لا يظهر ولا يصل إلى آخر، ولعله لا يكون أصلًا. ومن ههنا كان يجب أن يكون الإنسان مبِينًا من أول خلقته، لأنه لا يكون الإنسان إنسانًا إلا بالبيان، كما قال الله تعالى عند ذكر أول الخلق: (وعلم آدم الأسماء كلها)، أي أقدره على تعلم اللغة، فاللغة أسماء الأشياء، فكل دالٍّ من اللغة هو اسم لمدلوله، سواء أكان في الاصطلاح اسمًا أم فعلا أم أداة رابطة أم تصريفًا، فرجعت اللغة كلها إلى الأسماء، وبها يكون البيان الذي عُلِّمه الإنسان، وبه يكون إنسانًا. وبه أيضًا عُلِّم الإنسان القرآن، لأن القرآن نزل بصنف من اللغة، وهو اللسان العربي، وبه كان القرآن مبِينًا.

والراجح أن النجم هو النبت الصغير لا ساق له، لتتم المقابلة، وهو يقابل الشجر المرتفع ذا السوق، وهما معًا في الأرض يقابلان الشمس والقمر في السماء. والنجم والشجر نشوؤهما وحياتهما بحسبان أيضًا، كما قال الله: (وأنبتنا فيها من كل شيء موزون)، ولكن الحسبان في الشمس والقمر أظهر من أجل حركتهما الرتيبة المنضبطة الدائبة، وعبر عن حركة النبات غير الرتيبة بالسجود، فهو مسخَّر مسبِّح خاضع. والشمس والقمر أيضًا يسجدان، كما قال الله: (ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر) الآية، فحصل من هذا التعبير ما يشبه الاحتباك، فكل ذلك بحسبان، وكل ذلك يسجد. ولولا الخضوع والتسخير، ولولا الميزان والحساب، في خلق أجرام السماء وخلق نبات الأرض، ما كانت الحياة ولا استقامت.

ثم أجرى مقابلة لفظية في قوله: (والسماء رفعها ووضع الميزان)، لأن مقابل رفع السماء قوله: (والأرض وضعها للأنام)، فالسماء تقابلها الأرض، ووضع الأرض يقابله رفع السماء، وتلك المقابلة بين رفع السماء ووضع الميزان القصد منها أن الميزان المرسل به الرسل وكُلِّفه الإنسان، كما قال الله: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان)، (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)، فالميزان الأرضي موكول إلى الناس، وأما السماء فمرفوعة حقيقة، ومرفوعة مجازًا لأن قيامها بالحق ليس موكولًا إلى أحد.

والراجح أيضًا أن (الأنام) في قوله: (والأرض وضعها للأنام) كل دواب الأرض، لأنه ذكر ما يتغذى به الإنسان وغيره، ومن ههنا ذكر (العصف) في قوله: (والحب ذو العصف والريحان)، فهو ما تعصف به الريح من النبات، تتغذى عليه الدواب.

وقوله: (خلق الإنسان من صلصال كالفخار. وخلق الجان من مارج من نار) يدل على خصوصية الإنسان في الخلق وفي الوحي، لأنه ذكره هنا مقرونًا بالجان، وذكره في صدر السورة منفردًا، وذكر تعليمه البيان، وأما التكليف والجزاء فيشترك فيه الإنس والجان، تدل عليه آيات كثيرة، ولكن ليس تكليف فروع الشريعة المخصوص بها الإنسان.

وقد رأى الشيخ ابن عاشور أن قوله: (فبأي آلاء ربكما تكذبان؟) قصد منه المؤمنون والكافرون، واستبعد أن يكون قصد منه الإنس والجان، كما هو رأي جل المفسرين، وكيف يكون قصد به المؤمنون وهم لا يكذبون بشيء من آلاء الله؟

والسؤال بـ (أي) للتعيين، أي: هاتيا واحدًا من الآلاء تكذبان به، أي واحدًا يتأتى فيه التكذيب، والمعنى لا شيء يتأتى فيه ذلك، فالمقصود بالسؤال التقرير، أي حمل المخاطب على الإقرار، فتكرار الآية مع كل نعمة للتقرير بكل نعمة على حيالها، كما قال في سورة النجم: (فبأي آلاء ربك تتمارى؟)، وقد سلف أن السور المتجاورة تتشابه في الألفاظ وفي المعاني، وقد سلف في سورة القمر تكرار: (فكيف كان عذابي ونذر؟ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟).

ثم تعال إلى سمة الازدواج أو التثنية في السورة، أولها أن الإنسان المخلوق من صلصالٍ ينشئ جسده المادي أنعم الله عليه بنعمتين معنويتين، هما القرآن والبيان. والازدواج في الشمس والقمر ظاهر، وأيضًا في النجم والشجر على ما بينت، وفي السماء والأرض. ثم فصل بين السماء والأرض بحديث الميزان، وأمر فيه بإقامة القسط، وحوالي القسط جناحان منهي عنهما، وهما الإخسار والطغيان.

ثم الأرض فيها ما يؤكل وما يشم، والثاني الريحان، وما يؤكل منه ما يصلح للإنسان وغيره، ومنه ما لا يصلح لإنسان، ولكن للدواب، نحو العصف، الذي هو التبن، ومنه قوت كالحب، ومنه فاكهة ليست بقوت، ومنه ما يكون فاكهة وقوتًا وذلك ثمر النخل، ولذلك خصه بالذكر، ومن النبات ما هو جمال للعين، كالنخل ذات الأكمام.

ثم الخلق المكلف إنس وجان، وجهات الأرض مشرق ومغرب، وهما بحسب شروق الشمس وغروبها، ولكن المشرق والمغرب درجات إما بحسب الأوقات، وإما بحسب الجهات، ولذلك سماه في موضع آخر بالمشارق والمغارب، فإذا قُسمت المشارق والمغارب قسمين صار كل منهما مشرقين ومغربين. والماء في الأرض بحران ملح وعذب وبينهما برزخ، كالقسط بين الإخسار والطغيان، وكالتمر بين القوت والفاكهة، وكالريحان لذة للشم، وهو بين ما هو لذة للنظر، ولذة للأكل. ويخرج من البحرين اللؤلؤ والمرجان، وهما لونان للعين، وأيضًا صلب ورطب للمس.

ولعلك ترى أن المنشآت في البحر لا ثاني لها، فإن ثانيها هو الأعلام، وهي الجبال، فهما متقابلان، أحدهما في البر، والآخر في البحر، وأحدهما من خلق الله، والآخر من صنع الإنسان أقدره الله عليه، فهو راجع إليه، ولذلك قال: (وله الجوار المنشآت)، أي وإن كانت من صنعكم فهي له، لأنه علَّمكم وأقدركم.

ثم ههنا وقفة تشير إلى طي بساط الدنيا، وفناء كل من عليها، والبقاء لله، سبحانه وتعالى، ولكن لماذا وسَّط الوجه، فقال: (ويبقى وجه ربك)، ولم يقل: ويبقى ربك، مع أنه هو المراد؟ وإنما كان ذلك كذلك لأنه جعل وجه الله في القرآن مقصود المؤمنين، فقال: (وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله)، (يريدون وجه الله)، (إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى)، فمقصودكم -وهو الله- باق، وعبَّر عنه بما عبَّر عنه عند ذكر مبتغَى المؤمنين.

وذكر الفناء ههنا في مفاجأته بعد تعديد وجوه الخلق وتعديد الألوان والأصناف في الدنيا - يشبه ما في سورة المؤمنون بعد ذكر خلق الإنسان وأطواره: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين) والآية التالية، ثم قال: (ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون)، فهذا الخلق الفردي للإنسان، أو الجماعي للحياة الدنيا، يعقبه الموت والفناء حتمًا، فهذه الحركة والكثرة والبهجة صائرة إلى الفناء لا محالة، فإيراد هذا المعنى هنا إيقاظ وتذكير بالمصير، لأن الإنسان كثير الغرور، وفي حياته ما هو كثير التغرير.

ولذلك يكون قوله: (سنفرغ لكم أيها الثقلان) وما بعده من قوله: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا) الآية كله في شأن الآخرة بعد ذكر الفناء، ويكون قوله: (يسأله من في السموات والأرض كل يوم هو في شأن) استطرادًا واعتراضًا بعد ذكر بقائه المباين للزمن، لذكر قيوميته المباينة للشغل والتعب والنسيان، ولذلك قال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم)، فهو رب السموات والأرض ومن فيهن، ويقصده من في السموات والأرض بالمسألة، على ما هو مقتضى الفطرة، فهو الصمد، الغني عن كل أحد، والمفتقر إليه كل أحد. ولا تنس الازدواج هنا في ذكر البقاء والقيومية.

وليس الفراغ من شغل في قوله: (سنفرغ لكم أيها الثقلان)، ولكنه تعبير عن تقدير موعد للحساب، فلا بد من الحساب، ولا بد من توقيته، ولا بد من توفيته، وتوفيته إنما تكون في ذلك اليوم، كما قال: (ولكل درجات مما عملوا ولنوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون).

وإذا كان ذلك كذلك فلا مهرب ولا ملجأ ولا مخرج من أقطار السموات والأرض ولا نفاذ، وقوله: (لا تنفذون إلا بسلطان) من باب التعجيز، إذ لا سلطان يُنفذهم، ولا نصير يُنقذهم. وقوله: (يُرسَل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) الظاهر أنه قبيل قيام الساعة، وفي صحيح مسلم من قيل عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- وله حكم المرفوع، وقد جاء مرفوعًا: "لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق"، وهو مناسب لذكر البرزخ والمنزلة بين المنزلتين في السورة كما مر. وفي هذا ازدواج أيضًا بين النار والنحاس إذا جَرَرْتَ النحاس، وبين الشواظ والنحاس إذا رفعت النحاس، والشواظ اللهب الصافي، والنحاس الدخان على قراءة الرفع، وعلى قراءة الجر النحاس المعروف.

وإنما لا يُسأل عن ذنبه إنس ولا جان من أجل الميزان الذي يزن مثقال حبة من خردل، ورتَّب الناس مراتبهم، وقرر مصائرهم، وستكون أعمالهم في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، وستشهد عليهم أعضاء أبدانهم، وسيماهم في ذلك الموقف تدل عليهم، فيؤخذ كل واحد منهم من ناصيته وقدمه -وفيه تثنية مقصودة- فيرمى في النار، ولكنهم سيسألون سؤال توبيخ وتقريع، كما جاء في آيات أخرى. وهناك تثنية في طوافهم بين جهنم والحميم الآني، كما قال: (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل). ومن الواضح قِصَر وصف النار بالقياس إلى وصف الجنة، فوصف الجنة هو المقصود الأعظم في السورة.

ووجدت الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- في الظلال كأنما يتحرج من أوصاف التنعم الجسدي في الجنة، فيختصر الكلام عليه، أو يفسره بأنه لمراعاة طبائع بعض الناس التي تميل إلى ذلك.

والحق أن الله فطر الناس جميعًا على الميل إلى ذلك ومحبته والرغبة فيه، وهو ليس عيبًا ولا نقصًا، ولا هو مخصوص بقبيل من الناس، بل كل الناس يحب ذلك، ويشتهي أطايب المآكل والمناكح، وأحاسن الملابس والمرافق، ولا يقع التزهيد فيها إلا في الدنيا على جه التقلل والاقتصاد، خوف تجاوز الحلال، وخوف الاستكثار الملهي، والترف المطغي، بل ذكر الله أن الطيبات والزينة أخرجها الله للمؤمنين، ويشاركهم فيها غيرهم في الدنيا، وهي خالصة لهم يوم القيامة، وذلك قوله: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة).

وإذ قد وصف الله تعالى ذلك النعيم في كتابه، وأطال وصفه، ورغب فيه، وجعله جائزة العاملين، وغاية المتنافسين، وهو أعلم بخلقه، وهو أعلم بما يعيب وما لا يعيب، كان وصفه وتفصيله واتخاذه وسيلة للترغيب فيما أعده الله، وموعظة للتشويق إلى جنته التي أعدها للمؤمنين - اقتداء بالقرآن، واتباعًا لهَدْيه، ووقوفًا عند ما بينه ووصفه، بلا تقدم بين يديه، ولا تخصيص له بأنه لقبيل من الناس، ولا استشعار بأنه نقص ومنزلة دنيا، فالرغبة في ذلك مركوزة في طبائع البشر، كما هو مشاهد متعالم، والزهاد إنما راضوا أنفسهم وعالجوها للمعنى الذي ذكرته في متاع الحياة الدنيا، واستشرفت نفوسهم إلى ما أعد الله لهم في الآخرة، بل اشتروا نعيم الآخرة المقيم، بمتاع الدنيا الزائل.

وفي الآخرة أيضًا نعيم غير جسدي من التكريم والتنويه ورفعة الدرجات في ذلك الجمع، ورضوان الله تعالى عليهم، وكلامه لهم، ونظرهم إلى وجهه، وجمعهم بأحبائهم من قرابتهم وأزواجهم، وجلوسهم متقابلين هم وأخلاؤهم، وحديثهم وتذاكرهم وتزاورهم، ونزع الغل الذي كان في الدنيا من صدورهم، وكل ذلك جاء في القرآن الكريم.

والتثنية في وصف الجنة -وقد طُبعت السورة من أجلها بسِمَته- لأن التثنية في الأصناف أكثر إمتاعًا وإسعادًا من الأصناف العديدة من أول الأمر، إذ يكون التنويع صنفين صنفين، فتكون الكثرة منه على التدرج، وبالتفريع الثنائي، وهو من أسباب دفع السآمة والاعتياد، وقال الله تعالى: (خالدين فيها لا يبغون عنها حِوَلا).

ومن الواضح أن الجنتين الأوليين للمحسنين أرفع من الجنتين الأخريين، وذلك ظاهر في كل الأوصاف المذكورة، كما بين ذلك المفسرون، ولكن لم أجد من أشار إلى علة تقديم الفُرُش على النساء في الأوليين، وتأخيرها في الأخريين، وهو من التفضيل والتحسين، لأن الإعداد للشيء من قبل مجيئه أقرب إلى التكريم من إلحاق ما يتعلق به من بعده.

ويسأل أناس على سبيل الاستشكال، وآخرون على سبيل التهكم والتشغيب وإلقاء الشبهات، عن نصيب النساء المؤمنات من التنعم في الجنة بالباه، والجواب أن الله تعالى جعل التنعم في الآخرة على مثال الدنيا، وشبيهًا بما فيها، كما قال الله تعالى: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقًا قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل)، أي في الدنيا، إذ كيف يُشَوَّقون إلى شيء لم يعرفوه ولم يذوقوه؟ وفطرة الله وناموسه في الخلق أن تكون المرأة لرجل واحد في الحال الواحدة، إلا أن يقع فراق أو وفاة، فتكون في الآخرة أيضًا لرجل واحد على ما فيه سرورها وحبورها، سواء أتزوجت في الدنيا أم لم تتزوج، وسواء أتزوجت واحدًا أم أكثر، وقد قال الله تعالى في اجتماع أزواج الدنيا في الآخرة: (جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم)، ونحوها آية أخرى في سورة غافر في دعاء الملائكة: (ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم).

وعلى الإجمال يكون جزاء المتقين في الآخرة رجالًا ونساء في غاية التنعيم والتكريم، على ما تشتهيه أنفسهم، وتقر به أعينهم، ولا يكدرهم فيها شيء، ولا يكون فيها النقص ولا العيب، ولا التحاسد ولا التباغض، بل حديثهم الطيب من القول، وتحيتهم فيها سلام، وفيها فوق ذلك كما في حديث الصحيحين: "ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، ثم تلا قول الله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون).

وكما ختم القسم الدنيوي من السورة باسم ذي الجلال والإكرام، ختم به القسم الأخروي، وهو في أسمائه تعالى جمع صفتين اثنتين، وهو مناسب لسِمَة السورة في التثنية، ومعناه -والله أعلم- أنه جليل ويجله أولياؤه، والجلالة العظمة التي تملأ النفس وتغطي ما سواها، وأنه يكرم أولياءه بفضله، وفي ذكره في آخر السورة إشارة إلى الكرامة المعنوية في الجنة، ولا سيما إلى تحية أهلها بالسلام منه، كما ذكر في عدة مواضع من القرآن، وسمى الله الجنة دار السلام، وفي حديث صحيح مسلم قوله -صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف من الصلاة: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام"، فجمع بين السلام وهذا الاسم، وفيه دلالة واضحة على الصلة بينهما، وعلى مجازاة عباده بالإكرام على إجلالهم له، وهو الملمَح إليه بخوف مقامه في السورة. ولم يكن الاسم الإجلال لأن له جلالًا ذاتيًّا مستقلًّا عن إجلال الخلق، وأما الإكرام فهو وحده المكرم على الحقيقة: (ومن يهن الله فما له من مكرم).

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  5250