الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

وظيفة "محرِّر الترجمة"

محمد إلهامي

مقالة

تاريخ النشر: 2021/01/23
اقرأ للكاتب
أحسب أنه قد حان الوقت، واشتدت الحاجة، إلى استحداث وظيفة "محرر الترجمة" لدى أي دار نشر أو مركز بحثي أو موقع مهتم بنشر الترجمات. ذلك أن الغالبية العظمى من الترجمات الحالية تدحرجت رتبتها من أن تكون ركيكة إلى أن تكون غير مفهومة بالمرة.
وأدنى مقارنة بين ترجمات هذا العصر وترجمات ما قبل ستين سنة، تنطق بالهوّة الضخمة بين الحاليْن. إن الأجيال التي تعلمت في زمن العسكر تجيد اللغات الأجنبية أكثر مما تجيد اللغة العربية، ولذا فهي تعجز عن التعبير عن هذه المعاني بلسان عربي سليم، فضلا عن أن يكون لسانا عربيا فصيحا أو مبينا.
بعض الترجمات القديمة كانت كأنها نص أدبي عربي عالٍ، من ذلك مثلا ترجمة محمد السباعي لكتاب "الأبطال" للفيلسوف المعروف "توماس كارلايل". وأتذكر أني بحثت عن الأصل الإنجليزي لتقدير مدى "تلاعب" المترجم بالترجمة بلاغيا، فأذهلني أن الأمر لم يكن على نحو ما تصوَّرت، وإنما كانت قدرة المترجم على هضم المعنى وإنتاجه بالعربية ليس فيها ما يسميه المترجمون "خيانة النص".
وانظر مثلا لتطور الترجمة، في ترجمة كتاب "سيكولوجية الجماهير" المشهور لجوستاف لوبون، هذا الكتاب صدرت له ثلاث ترجمات؛ الأولى ترجمها فتحي زغلول بعنوان "روح الاجتماع" (1909) والثانية ترجمها عادل زعيتر بعنوان "روح الجماعات" (1950) ثم الثالثة التي ترجمها هاشم صالح بعنوان "سيكولوجية الجماهير" (1991م). ففي حين جاءت ترجمتا زغلول وزعيتر بلسان عربي فصيح، جاءت ترجمة هاشم صالح بهذا اللسان المعاصر الركيك، ولكنه مع ذلك يظل مفهوما.
أما ما نراه الآن من ترجمات، فهي قد غادرت حتى الركاكة المفهومة ودخلت في الغموض والاضطراب، ولم تعد المعاني مفهومة إلا بعد إرهاق شديد في التفكير والتأمل، بل بعض الترجمات أيسر منها الرجوع إلى النص الأصلي.
ولا بد من التأكيد على أن كثيرا من المترجمين يقوم بعمل عظيم، ويستطيع نقل المعنى ببراعة يُغبط عليها، وهنا أتذكر بالجميل والمعروف أستاذنا الراحل د. محمد يوسف عدس في ترجماته المتعددة، وأهمها ترجمته لكتاب علي عزت بيجوفيتش "الإسلام بين الشرق والغرب"، فلقد نقل نصًّا فلسفيا عميقا بأناقة وتمكن مثير لكل إعجاب.
من المشهور بين الناس قولهم: كم كتابا عظيما خسفت الترجمة به الأرض، وكم كتابا تافها رفعته الترجمة إلى عنان السماء.
وعلى كل حال، فاستحداث وظيفة "محرر الترجمة" ليست مصاريف زائدة ينفقها الناشر أو مالك الصحيفة أو صاحب الموقع، بل هي التي ستساهم في رواج الكتب والدراسات والمقالات، فإن الركيك يطرد الجمهور ويجذب الكساد!
إن منتجي المسلسلات والأفلام، يحرصون على وجود مدقق للهجة، كي يكون العمل واقعيا. وددتُ لو أن المسلسلات التاريخية تستحدث منصب "محرر السيناريو" لكي ينقل اللغة الركيكة إلى لغة سليمة تليق بعصور الأوائل وتقترب من لسانهم. إن أدنى نظر إلى المسلسلات التاريخية التي كتبها وليد سيف والمقارنة بينها وبين التي كتبها آخرون تكشف الفارق الواسع بين اللسانيْن، ويمكن أن نُضَيِّق كثيرا من هذا الفارق لو وُجِد رجل فصيح حوَّل السيناريو إلى لغة رفيعة مأخوذة من طبيعة العصر الذي تُمَثِّله.
وما زال في أمتنا وفي أبناء كليات اللغة العربية والكليات الشرعية كثير من أهل العلم وطلاب العلم الذين يستطيعون القيام بهذه المهمة على خير وجه.
ولعل هذا إن حصل يحقق جملة من الفوائد: فهو يحقق مقصود الترجمة أولا بنقل المعاني من لغة إلى لغة ليتم الاستفادة من العلم الموجود بغير لغتنا العربية، وبذلك تُثرى الحالة الفكرية الثقافية، ثم هو يوفر فرص عمل لأولئك الدارسين للغة والمحبين لها، وهو في النهاية يرفع المستوى العام من تذوق اللغة ومن الكتابة بها، وذلك كله يُطَوِّر من وضع اللغة العربية، ويقرب الناس من فهم تراثنا الذي لطالما باعدت العُجمة بيننا وبينه.

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  1713