الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

بين يديْ ديوان الراية البيضاء

محمد الصادق الخازمي

مقالة

تاريخ النشر: 2021/01/07
اقرأ للكاتب
تفتتح مقدمات الدواوين -عادة- بالإشادة بالشاعر، أو بالتنويه عن مكانته الأدبية، أو بكلمات مجاملة تُحشَد فيها مفردات الثناء والإعجاب، وغير ذلك...
وشاعرنا د. عبد المولى في غنى عن ذلك كله؛ لأنه -وهو في هذه المرحلة من عمره- سمع ثناء عظيما، واحتُفِلَ به وبشعره مرات ومرات، ودَرس الباحثون قصائدَه في رسائل علمية لنيل الماجستير والدكتوراه، ومن ينل ما ناله الدكتور البغدادي يزهد فيما هو مكرور، ويرغب في دراسة وافية تعطي مفاتيح قراءة، وتضع اليد على مواطن الإبداع والإجادة، وذلك أولى بالمقدمة وأجدر.

1
يُتَّهم البغدادي بأن شعره شعر مناسبات، وهذا صحيح من حيث المبدأ، لكنه خطأ من حيث المضمون.
كأنّ بين الدكتور البغدادي وشعره نفورًا ما، يكتب القصيدة ثم لا تعجبه؛ فيركنها في زوايا مكتبه، وأحيانا ترمى للنسيان الأبدي، وهذا ليس غريبا أبدا؛ فالشاعر الفذ هو من يبحث الدهرَ عن قصيدته، يكتبها في كل مرة، ويظن أنه بلغ بها المنتهى، ثم عند النشوة منها يلفظها، ولا يرضى، ولا عجب؛ فالرضا مقبرة الإبداع، والانتشاء بالشعر، والعجب به مقبرة كل فنان مبدع، ثم تعنّ مناسبة ويلحّ عليه محبوه ليكتب فيستجيب مجاملا، والشعر هالات، وحالات، ودواع، فإذا بدأ -بعدُ- جاء الشعر، وفاض من القريحة ما يطرب، ويذهل، وترى الشعريّة الحقّة بعد.
والفارق النقدي أنك عندما تتخلص من المقدمات، وكلمات المجاملة تجد بعدها ينابيع صافية من المعاني العميقة، والتراكيب المصوّرة بأحسن الصور، فشعر المناسبة أو المجاملة لم يقتل الإبداع عند البغدادي بل كان سببا فيه، ولولا أنّ القصائد تفقد قيمتها التاريخية لأشرت على الشاعر بحذف أبيات المجاملة والمناسبة، لأنها أحيانا تكون كالصادّة عما هو أروع وأجمل، وهذه ظاهرة تتكرر كثيرا عند الشاعر، وهذه دعوة جديدة للنقاد الذين لا يفضّلون شعر المجاملة أو المناسبات لأن ينظروا في الأعماق، ويبحثوا في ثنايا القصيدة، فما المناسبة إلا دافعٌ، وسبب، والإبداع في كامن في تفاصيل القصيدة، خذ مثلا، قصيدته التي كتبها مجاملا فيها د.محمد دغيم في مناسبة أقامها، ستجده يبتدئها محاولا تخليد المناسبة في القصيدة متخذا من تناسب لفظي (الغيم، ودغيم) مدخلا، دع عنك هذا، واستمع إليه بعدُ حين يقول:
كنا معا...
نقطف الأزهار دانيةً
من روضها، ليس منا من يقول أنا
وهذه صورة فيها الرمز، وفيها شفافية المتصوّفة أيضا.
ثم حين يستفزه الشعر تراه يبلغ في الإبداع منتهاه حين تتراسل الحواس في بيته:
لا زال من لحنها المسكوب
في أذني طيفا
يجوب المدى، يسترجع الزمنا
وهنا انتشاء شعريّ عميق، لو لم نتجاوز المناسبة ونضعه في صورته الإبداعية المفردة لما انتبهنا إليه.

2
وبعض قصائد الشاعر طويلة جدا، وقصيدة (وحي الثمانين) قد جاوزت الأربعمائة بيت، وبعض قصائده تبلغ الثمانين بيتا أو تقارب ذلك، وقد يرى بعض النقاد أن هذا زمن لم يعد يناسب التطويل، (فمن التطويل كلّت الهِمم)، مع أنّ طول القصائد كان معيار إجادة عند القدامى، وبسببها قدّم الراويةُ الناقدُ أبو عبيدة الأعشى ميمونَ بن قيس على طرفة، يقول: "الأعشى هو رابع الشعراء المتقدمين، وهو يُقدَّم على طرفة لأنه أكثر عدد طوال جياد" (الحموي، معجم الأدباء، 6-851).
ومن حيث القيمة النقدية هناك معياران نقديان يظلِّلان هذه القضية: الأولى القدرة على التكثيف والإيجاز، والثانية نقيضها، وهي القدرة على الانطلاق والتحليق عاليا من غير قيود، أو تكرار، أو إملال، واعتماد هذين المعيارين يغنينا عن إطلاق الأحكام جزافا، فمن أراد إيجاز النص، وشحن الكلمات القليلة بالمعاني الكثيرة فلينظر في النصوص، وليتأمل، وليحلل النص، ومن رأى في الطول مسرحية متعددة الفصول، كثيرة الأوجه، لها شخوص وأبطال كثر، فليأت بدليله من النص، وليس من أحكام عامة جاهزة.
ولندع تفصيل هذين المعيارين لدراسات لاحقة، فالديوان الذي بين أيدينا هذه المرة حفل بقصائد من النوعين: قصائد طويلة، ومقطّعات أبياتها بين الخمسة والعشرة؛ فالشاعر هنا -على غير العادة في ديوانيه السابقين- متماهٍ مع القضية، ومجدِّدٌ لنشاطه، أو اختياره، أو كأنه يقدّم للقراء ألوانا أخرى لم يألفوها من شعره، وفي قصيدة (منقار الغراب) وأبياتها ستة، يختصر المسافة كلها في بيتين افتتح بهما القصيدة:
كنا نظن القتل أبشع
وصمة في الأرض قد نسبت
إلى قابيلِ

فإذا بمنقار الغراب يغوص
في أحشائنا لنغوص في التضليلِ
هذه الصورة تختصر المشهد، ليس القتل هو أسوأ ما نشاهده، السيء هو: (منقار الغراب)؛ رمز إخفاء الجريمة، وهذا المنقار أين يضرب الآن؟ في الأحشاء، لقد قُتِلت المبادئ، وأخفيت النيات السيئة بأغلفة من الدين، والقبيلة، والمصالح وغير ذلك، الأسوأ الذي تكشفه القصيدة هو أننا بتنا لا نعرف السيء أصلا، ولهذا كانت هذه القصيدة مكثفة موجزة جدا؛ لأنّ مداها الفنيّ يقتضي ذلك.

3
لماذا يكرِّر الشاعر؟ ربما لأن المعنى يلحّ عليه؛ لضرورة هذا المعنى لديه، أو لأنه لم يصل إلى الصياغة التي يريدها، التكرار ليس عيبا بالمطلق كما قد يتوهّم بعض القرّاء، التكرار هو صور متشابهة لمعان مختلفة أحيانا، قد يخدعك الشاعر فترى ألفاظا متشابهة فتظنها معاني متشابهة وليس الأمر كذلك، وقد يلحّ عليك لأنه يستجديك أن تنتبه، ولا يجعل لك سبيلا للتجاهل أو للقراءة العجلى.
قصيدة (بني وطني) التي في ديوان (الراية البيضاء) مثال على ذلك، يكرر المعاني، نعم، لكنه ينوّع القافية بين الهمزة، والتاء، والضاد، والنون، فكأنه يجعلك أيها القارئ شريكا في الاختيار، هذا معناي وخذ أنت ما يناسب ذوقك، ويخف على سمعك من القوافي والألفاظ، أما المعنى فأنا متشبِّثٌ به، حريص عليه، وليست القافية من تحول بيني وبين المعنى، فالشاعر يتجاوز القافية مع قدرته على الالتزام بها كما التزم بها في قصائده الطويلة جدا، لكنّه ينوّع للأسباب الموضوعية السالفة، وبترتيب ذكي، الهمزة للترحيب الرسمي الخفيف:
بني وطني وأبنائي
أحبائي أعزائي
والميم للمناشدة:
بني وطني أناشدكم
وأستجدي ضمائركم
والضاد للإنكار وللغة الصارمة:
لماذا يا بني وطني
يكفِّر بعضنا بعضا
ثم يعود للدال بلغة أرق قليلا إذا خشي أن يشتد على القارئ صوت الزجر والتقريع:
فماذا لو تحاورنا
حوار الحبّ والودّ
والمقام لا يسمح بتفصيل أكثر، لكنّ الإشارة تغني عن كثير من التفصيل، وفي رأيي فإنّ أزمة الشعر الليبي ما زالت تختصر في الدراسات النقدية العميقة التي تقرّبه من القارئ، أو التي تفتح آفاقه، وتكمل ما بدأه الشعراء من إبداع بالكشف عن مواطن ذلك.

4
وهذا ديوان الراية البيضاء، يحمل دعوة للسلام المجتمعي، ويدعو إلى نبذ العنف، والاحتكام إلى السلاح، فطبيعة المضمون العام الذي يحفل به الديوان مباشرة، أو لنقل تعلو فيه النبرة الخطابية الحماسية، فالديوان أُخْلِص للقضية، واختيرت القصائد والمقطّعات بناء على هذا المعيار، فهو تذكار الشاعر في هذه المرحلة المتأخرة من تاريخ الأمّة الليبية، وهي بلا شك مرحلة صعبة وعصيّة، ويحاول الأديب أن يقوم بدوره في التخفيف من حدّتها، والاعتراض على ما بها من بؤسٍ وتناحر، وشق الصف، ويدعو إلى السلام، والوحدة، والوئام.
ولكل ذلك؛ فالديوان قد اختار جمهورَه، وللجمهور دورٌ في طبيعة الشعر، والمتلقّي يحدِّد الأسلوب الذي يوافقه أحيانا؛ ولأن جلّ قصائد الديوان ألقيت في محافل جماهيريّة حاشدة؛ فكان من الأجدر أن تكون بصيغة حماسية مباشرة، وأن تحمل فكرة واضحة، لا ترهق المتلقّي بالتأمل، والبحث، والتحليل، والنظر، والاكتشاف!
تعدد الجمهور وطبقاته، والشحن العاطفي الموجود سلفا لدى الجمهور بسبب ظروف البلاد، أغنى الشاعر عن الحيل الأخرى التي يستفزّه بها، الجمهور جاهز، والآذان مصغية، والنفوس متوثّبة، وعلى الشاعر أن يطرح قضيته بكل تجرّد، متبرِّئا من السياسة والساسة، وأشياعهم، منحازًا إلى الوطن الغالي.
وقصيدة (قم يا بلال) التي قالها احتفاء بالأديب علي أحمد سالم تبلغ ذروة الديوان، وتفيض بروح الثورة، وتشخص الواقع الليبي بحنكة الفنان السياسي، والمواطن المخلص معا، استمع إليه:
قم يا بلالُ؛ فجمِّع شملنا وإذا
ما أعرض البعضُ
فاعلمْ أنّهم فسقوا
ويستثير الشاعر أحداث التاريخ العربي القديم، ليوظفها الآن في التاريخ الحديث، مزاوجة مقصودة حين ظنّ بعض القرّاء أن نبرة المباشرة هي الطاغية:
أحداث داحس والغبراء
إن ذُكرت فليس إلا علينا
الآن تنطبق

وشسع نعل كليب
لو أتيح لنا لصار مثل بيوت المال تسترقُ

الله أكبر
لم تبرح مسامعنا
أما القلوب...
فلا بوحٌ ولا رمقُ

قم يا بلال؛ فردّد
لا صلاة لمن خانوا وضلّوا
وإن حجّوا وإن عتقوا

قميص يوسف
ناقوسٌ يسفههم
الذئبُ أصدقُ منهم
كلّما نطقوا
وهكذا تمضي القصيدة تكشف الواقع، تفضحه، تهاجمه، لا تستسلم أبدا، فالقضية أعمق وأبعد، والوطن في خطر، وصوت الشعب يتجلّى في هذه النبرة المباشرة الصاخبة.
المباشرة بهذا الأسلوب لها قيمتها النقدية، وتناسب الموقف، بل تخدم الغاية التي أنشئ الديوان من أجلها، لكن الشاعر مع ذلك زيّن صوره بالتناص من القرآن الكريم، والتاريخ العربي، والشعر العربي، وقدّم الرسالة في نصّه إرضاء لذاته أولا، ثم لمضمونه الفني والموضوعي ثانيا.

5
الشاعر متعبٌ من القضية، وعندما تُرهق الروح يخفّ الحماس، ولهذا يهرب إلى الفنّ ليجدد نشاطه ويجد روحه، في قصيدتي الديوان (بين عام مضى وعام جديد)، و(قم يا بلال) رؤية الشاعر لكل الأحداث، في هاتين القصيدتين تكمن شاعريته، ويبلغ الديوان ذروته، أخفاهما في الثنايا، ويظن من يقرأ أنهما قصيدتان لا تحفلان بالكثير، لكنهما كانا ملجأً للشاعر من ضيقه؛ فنفث فيهما من سحره، وأودعهما جمالا يلوذ به عند اشتداد الألم.
كل ليلٍ
مهما تطاول يفضي
لصباحٍ، وصبحُنا إظلامُ

كلَّ عامٍ نقول:
هل من سلامٍ وأمانٍ
ومرّ عامٌ...
فعامُ

كل َّعامٍ
تحرُّشٌ وانتهاكٌ ودمٌ باردٌ
ومالٌ حرامُ

كلَّ عامٍ
نمارسُ القتل بغيا وانتقاما
فجاءنا الانتقامُ

وصحونا...
فلم نجد غير شِسعٍ لكُليبٍ
يلوكه الإعلامُ
وبعد، فقد أطلتُ في هذا التقديم، وبودي لو سمح المقام فجُلْتُ في أنحاء هذا الشعر الرائق، والفن الفائق بما يليق به، ولكن لمّا عزم الشاعرُ على جعل هذه القراءة بين يدي الديوان لم يَلِق أن تكون أطول من ذلك، ولعل الباحثين والدارسين والنقّاد يزيدون أو يردّون، وحياة الشعر بحياة الجدل الذي يقام عليه، ثم إنه ليس الخبر كالعيان، وهذا الديوان بين أيديكم أيها السادة القراء الكرام.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  3891