 | الاستعارةيحيى أحمد محمود | مقالةتاريخ النشر: 2021/01/02 اقرأ للكاتب |
من الأفكار التي تسحرني دائمًا فكرة الاستعارة التي تحكم رؤية الإنسان لموضوع ما، وتكشف عن مكنون نفسه، وما قاله كونديرا من أن "جوهر الإنسان يمكن التعبير عنه بواسطة استعارة". حكى لي أحد الأصدقاء عن استعارة سمعها من صديق له منعته من تجربة الكوكايين. العقل بالونة، والكوكايين ينفخ البالونة، فإذا ما انتفخت لا يعود العقل أبدًا كما كان. خاف صديقي أن يجرب اتساع بالونة دماغه إن جاز لنا التعبير. وقال لي صديق آخر في معرض تفسيره لفشله في الحب إنَّ الحب لعبة، مثل ألعاب الفيديو جيم. ومشكلته الأبدية أنه لا يتقن هذه اللعبة ولا يريد. في اللعبة ينبغي أن يكون الطرفان في نفس المستوى لكي تستمر المباراة. لكنه ما إن يكشف لمحبوبته عن مشاعره، تنتهي اللعبة فيخسر وتزهد فيه. لكن هذه الاستعارة الخطيرة تعني أن الحب مقصود لذاته فإذا ما كشف الحبيبان عن مشاعرهما انتهت اللعبة، وفقد كل شيء معناه، وآن الأوان للعبة أخرى مع لاعب آخر. ثم هو إلى ذلك مبني على التنافس والرغبة في إلحاق الهزيمة بالآخر. تحول استعارة اللعبة المحبوب إلى خصم. يغير المجاز من مفهومنا للأشياء. ترى الشيء في ضوء شيء آخر، فإذا ما تغيرت الاستعارة تغير مفهومك عن هذا الشيء. وأحيانا تفترس الاستعارة صاحبها. يستعملها ليفهم واقعه ويعبر عن وجه من أوجه ظاهرة ما فتتحكم في حياته. تشبه الاستعارة في تلك الحالة مسخ فرانكنشتاين. مرة قال لي أحد الأصدقاء: الحياة قصة، وأنا بلا قصة. ولما كان صديقي بلا قصة فهو أيضًا بلا حياة! إن تفسيره للقصة تفسير هولييودي لا واقعي. كان يعني بالقصة تلك المكونة من بطل وبطلة ووغد وحبكة ومشكلة وذروة وحل المشكلة. القصة في نهاية المطاف، أو هكذا أراها على كل حال، ليست في الأحداث وإنما في الإنسان المنفعل معها. في رؤيته وتفسيره وانفعاله ومشاعره وما يضفيه عليها من معنى. يصبح لشروق الشمس وغروبها معاني عظيمة. والقرآن ملآن بآيات تعبر عن أن الأحداث اليومية البسيطة معجزة. وقد فكرت في أن هذه الاستعارة سبب تعاسته. يحتاج صديقي إلى استعارة جديدة لفهم الحياة. ماذا عن: الحياة رحلة؟ وقد حكى جورج لاكوف ومارك جونسون في كتابهما العظيم استعارات نحيا بها عن تلميذ إيراني أخطأ في فهم التعبير الإنجليزي (Solution to my problems) على أنه بمعنى "محلول مشكلاتي" لا "حل مشكلاتي". إننا نفهم المشكلات بوصفها أحجية تحتاج إلى حل، أما في ضوء هذا الفهم الجديد (والخاطئ) للطالب الإيراني، فالمشكلات لا تختفي أبدًا، فهي حاضرة دومًا وإنما غاية المراد إذابتها في محلول بدلا عن أن تكون في صورة صلبة، وأفضل ما يمكن للمرء فعله أن يذيب مشكلة من دون أن يؤدي إلى صعود مشكلة جديدة. وكثيرًا ما سمعت من أصحاب الهوايات المختلفة كيف أن هذه الحرفة أو الهواية غيرت مفهومهم للعالم. يصبح المجال الذي يتقنونه ويفهمونه مصدرًا ثريًا للمفاهيم والمصطلحات التي تساعدهم على فهم أشياء أخرى. إن ما تضفيه المعرفة على الناس يفوق حد المعلومات المجردة. لكن هذه الاستعارات أحيانًا ما تكون مقيِدة. كل استعارة تظهر جانبًا من جوانب التجربة، لكنها إذ تفعل ذلك تخفي جوانب أخرى، إذ التشبيه لا يكون من كل وجه كما قال البلاغيون. ينبغي للإنسان أن يحذر من استعاراته. وقل ما شئت عن استعارات الإبادة واستباحة الآخر، استعارات الخرفان والصراصير والحشرات. كل المذابح سبقها تمهيد استعاري ينزع إنسانية المستهدفين. وإذا كانت الاستعارات خطيرة فهي أيضًا قادرة على إنقاذ الإنسان. يحكي لنا ألفونس كروش في روايته الصغيرة "هيا نشتر شاعرًا" قصة عالم بلا مجاز حيث يتكلم الناس بدقة مطلقة، وهو ما يعني تحييد أغلب الموضوعات ووصف ظواهر الأشياء وتجنب كل معنى باطني. تقول البطلة كلامًا من نوعية: مشيت 17 خطوة إلى الطاولة التي وضعت عليها أمي 23 ملليجرامًا من الزبدة و4 أرغفة من العيش، واستدارت برأسها 5 سنتيمترات وتركت ملليجرامين من ألعاب على خدي... إلخ. لا ينقذ الفتاة من ضيق حياتها سوى المجاز. "القصيدة هي حصن الإنسان الأخير للحفاظ على إنسانيته واستعادة ما هجر منه تحت أسماء كثيرة: الحداثة، التقدم، الربح إلخ". "استيقظت معكرة المزاج. كنت فعلا في حاجة ماسة إلى استعارة أو على الأقل تشبيه". "من دون استعارات ليس من الضروري الكلام".
المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك. |
|