الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

تقلُّب الزمان

أكرم علي حمدان

مقالة

تاريخ النشر: 2020/12/09
اقرأ للكاتب
نعوذ بالله من ريب الدهر، وتغير الأيام، وسوء المنقلب، نعوذ بالله من زوال النعمة، وذهاب العافية، نعوذ بالله من الشدة بعد الرخاء، ومن الحور بعد الكور، ومن خطوب الجديدين وصروف الزمان، فإنه لا يأمن الزمان إلا جاهل، ولا يركن إليه إلا سفيه، فالدهر قُلّب غلّاب، وقد شاء الله أن نعيش حتى نرى حكامًا كانت تخشى سطوتَهم الشعوب تساقطوا كالفئران صرعها السم، تفرقت بين العالمين دماؤهم، وتشردت في البلاد عوائلهم، منهم من قتل ومنهم من هرب، منهم من أعدم ومنهم حوكم، والماضي، كما الحاضر، حافل بالعبر، ولكن قل من يعتبر، فكأيِّن من امرئ حيزت له الدنيا ثم تنكر له زمانه، ودالت عليه أيامه، فأبدلته من بعد أمن خوفًا، ومن بعد عز ذلًّا:
وكل سلامةٍ تعِدُ المنايا * وكلُّ عِمارَةٍ تعِدُ الخرابا
كأنَّ محاسن الدنيا سرابٌ * وأيُّ يدٍ تناولتِ السَّرابا؟
وحسبك أن تسمع ملِكًا يقول:
أَرى الدُّنيا الدَّنِيَّةَ لا تُواتي * فَأَجمِلْ في التَّصَرُّفِ وَالطِّلابِ
وَلا يَغرُرْكَ مِنها حُسنُ بُردٍ * لَهُ عَلَمانِ مِن ذَهَب الذِّهابِ
فَأوّلُها رَجاءٌ مِن سَرابٍ * وَآخرُها رِداءٌ مِن تُرابِ!
وصدق من قال:
وما زالت الأيام تغدو على الفتى * فطورًا على بِشرٍ وطورًا على بَسْرِ
وإن سالمت، والظلمُ منها سجيةٌ * فلا بد يومًا أن تَغرَّ وأَن تُغري
ويعجبني قول أبي تمام في تقلب الزمان وقلة اكتراثه بأهله:
لو أن دهرًا ردَّ رَجْعَ جوابِ * أو كفَّ من شأويه طولُ عتابِ
لعذلته في دمنتين بأمرةٍ * ممحوَّتينِ لزينبٍ وربابِ
بل لقد جعل له لشدة بأسه نابًا ومخلبًا، فهو كالوحش يجول في الديار ويصول، كما صنع بمدينة الزباء على شط الفرات:
قد قلت للزباء لما أصبحت * في حدِّ نابٍ للزمانِ ومِخلبِ
لِمدينةٍ عجماءَ قد أمسى البِلى * فيها خطيبًا باللسانِ الْمُعرِبِ
فكأنما سكن الفناءُ عِراصها * أو صال فيها الدهرُ صولة مغضِب
ورحم الله عبد الرحمن بن أبي بكر، كان يقول: من أراد البقاء فليوطن نفسه على المصائب! وصدق أبو العتاهية:
فلا تعشق الدنيا أُخَيَّ فإنما * يُرى عاشقُ الدنيا بجُهدِ بلاءِ
حلاوتها ممزوجة بمرارةٍ * وراحتها ممزوجةٌ بعناءِ
وما الدهر يومًا واحدًا في اختلافه * وما كلُّ أيامِ الفتى بسواءِ
وما هو إلا يومُ بؤس وشِدَّةٍ * ويومُ سرورٍ، مرةً، ورخاءِ
أيا عجبًا للدهرِ لا بل لرَيبهِ * يُخَرِّمُ ريبُ الدَّهرِ كلَّ إخاءِ
وشتت ريبُ الدهر كل جماعةٍ * وكدَّرَ ريبُ الدهرِ كلَّ صفاءِ
ولقد خبرتُ أناسًا تمردوا في طلب الدنيا حتى بلغوا منها المنى، وحصلوا منها في أعلى المراتب، ثم ما عتّموا أن ناصبتهم العداء، وتكشفت لهم عن حقيقة سوداء، فحاروا منها خائبين مهزومين، لم يخرجوا بطائل، وصاروا بين عشية وضحاها من حال إلى حال، فما أقرب البلوى من النعيم، وألصق الشدة بالرخاء، ونُعمى الليالي، كما قيل، من البلوى على كثب!
وبينما المرءُ في الأحياء مغتبَطٌ * إذ هو الرَّمسُ تعفوه الأعاصيرُ
يبكي عليه غريبٌ ليس يَعرفُهُ * وذو قرابته في الحيِّ مسرورُ
حتى كأنْ لم يكن إلا تَذَكُّرُهُ * والدهرُ أيَّتما حينٍ دهاريرُ
اقرأ إن شئت ترجمة الحاجب المصحفي الأندلسي، صار حاجب الخليفة المستنصر، وناهيك به، ومَلَك من المال والضياع والقصور ما يفوق الحصر، ولم يزل يجري من السعد في ميدان رحب، ويكرع من العز في مشرب عذب، حتى أخذته الآخذة، وقلب له الزمان ظهر المجن، إذ تغيّر السلطان، وارتقى ابن أبي عامر سدة الحكم، فعزله ثم نكبه، وأغرى به قضاة كانوا بالأمس من رجاله المطيعين، يطير أحدهم فرحًا لو دُعي إلى مجلس من مجالسه، أو نال أعطية من أعطياته، سلطهم عليه فاستَصفَوا أمواله، وصادروا ضياعه، ولم يزالوا به حتى صار إلى أفقر حال، وأسوأ مآل، منبوذا وحيدًا، مقليا شريدًا:
نُحوسٌ كُنَّ في عُقبى سُعودِ * كذاك تدورُ أقدارُ القديرِ
وهو القائل في محنته:
لا تأمننَّ من الزمان تقَلُّبا * إنّ الزّمان بأهله يتقلَّبُ
ولقد أراني والليوثُ تخافني * وأَخافني من بعد ذاك الثعلبُ
حسبُ الكريم مذلةً ونقيصةً * ألّا يزالَ إلى لئيمٍ يُطلبُ
وإذا أتت أعجوبةٌ فاصبر لها * فالدهر يأتي بالذي هو أعجبُ
وله أيضًا:
صبرتُ على الأيام لما تولتِ * وألزمت نفسي صبرها فاستمرتِ
فوا عجبًا للقلب كيف اعترافه * وللنفس بعد العزّ كيف استذلتِ
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى * فإن طمعتْ تاقت وإلا تسلّتِ
وكانت على الأيام نفسي عزيزةً * فلما رأت صبري على الذّل ذلّتِ
فقلت لها يا نفسُ موتي كريمةً * فقد كانت الدنيا لنا ثم ولَّتِ
ومَن لم يتأثر بما صارت إليه حال المعتمد بن عبّاد ويرثِ له؟ كان ملء سمع الدنيا وبصرها، بلغ من الرقة ما أزرى بالغيد الحسان، ومن البأس ما أخاف الملوك ذوي الصلبان:
مَلِكٌ تضاءلت الملوكُ لقدرهِ * وعنا له صرف الزمان الجائرِ
وإذا لمحت جبينه ويمينه * أبصرت بدرًا فوق بحرٍ زاخرِ
ولم يزل متقلبا في النعيم، متنقلًا بين القصور، حتى جارت عليه صروف الزمان، وصار إلى أسوأ حال، ولم يزل فيها إلى أن مات منفيًّا غريبا، جائعًا بعد شبع، صاديا بعد ري، فقيرًا بعد غِنى، ليس له من ماضيه سوى ذكرى أليمة تبعث على البكاء وذرف الدموع:
أَكُلَّما سنحت ذِكرى طَربتَلَها * مَجَّت دُموعكَ في خدّيكَ طوفانا؟
أَما سَمِعتَ بِسُلطانٍ شبيهكَ قَد * بَزَّتهُ سودُ خُطوب الدَهر سُلطانا؟
وهو القائل يرثي لحاله:
سَلَّت عَلَيَّ يَدُ الخُطوب سُيوفَها * فَجذَذنَ مِن جِلدي الحَصيفَ الأمتَنا
ضَرَبَت بِها أَيدي الخُطوبِ وَإِنَّما * ضَرَبَت رِقابَ الآمِلينَ بِها الـمُنى
يا آملي العادات مِن نَفَحاتِنا * كُفّوا فَإِنَّ الدَّهرَ كَفّ أَكُفّنا
وله فيما صار إليه حاله:
أَصبَحتُ صِفرًا يدي مِمّا تَجودُ بِهِ * ما أَعجَبَ الحادِثَ المقدورَ في رَجبِ
ذُلٌّ وَفَقرٌ أَزالا عِزّةً وَغِنىً * نُعمى اللَّيالي مِنَ البَلوى عَلى كثبِ
قَد كانَ يَستَلِبُ الجَبّارَ مُهجَتَهُ * بطشي، وَيَحيا قَتيلُ الفَقرِ في طَلَبي
وَالْمُلكُ يَحرُسُهُ في ظِلِّ واهِبهِ * غُلبٌ مِنَ العُجم أَو شُمٌّ مِنَ العَرَبِ
فَحينَ شاءَ الَّذي آتاهُ يَنزِعُهُ * لَم يُجْدِ شَيئًا قِراعُ السّمرِ وَالقُضُبِ
وقصة ابن عبّاد أشهر من قصص ألف ليلة وليلة، ونكبة ابن تاشفين له مسطورة في كثير من كتب الأدب والتاريخ، وشعره في محنته طافح بألم الشكوى ومرارة المصير:
كُنتُ حِلفَ النَدى وربَّ السَّماحِ * وَحَبيبَ النُّفوسِ وَالأَرواحِ
إِذ يَميني لِلبَذل يَومَ العَطايا * ولقبض الأَرواحِ يَومَ الكِفاحِ
وَشِمالي لَقَبضِ كُلِّ عنانٍ * يُقحِمُ الخَيلَ في مَجال الرِّماحِ
وأَنا اليَومَ رَهنُ أسرٍ وَفَقرٍ * مُستَباحُ الحِمى مَهيضُ الجَناحِ
لا أُجِيبُ الصَريخَ إِن حَضَرَ النا * سُ، وَلا الْمُعتَفين يَومَ السَماحِ
عادَ بِشري الَّذي عهدتَ عُبوسا * شَغَلَتني الأَشجانُ عَن أَفراحي
فالتِماحي إِلى العُيون كريهٌ * وَلَقَد كانَ نزهةَ اللَّمّاحِ
ولتسمع قوله وقد آلمه القيد يرسف فيه:
تَبدلتُ مِن عزِّ ظلِّ البُنودِ * بذُلِّ الحَديدِ وَثِقْلِ القُيودِ
وَكانَ حَديدي سنانًا ذَليقًا * وَعضبًا دَقيقًا صَقيلَ الحَديدِ
فَقَد صارَ ذاكَ وَذا أَدهَما * يَعَضُّ بِساقيَّ عَضَّ الأُسودِ
أما ما آل إليه حال بناته فذاك مما ينفطر له القلب وينسكب معه الدمع، وقد صوره في أبياته التي طبقت شهرتها الآفاق:
فيما مَضى كُنتَ بِالأَعيادِ مَسرورا * فَساءَكَ العيدُ في أَغماتَ مَأسورا
تَرى بَناتِكَ في الأَطمارِ جائِعَةً * يَغزِلنَ لِلناسِ ما يَملِكنَ قطميرًا
بَرَزنَ نَحوَكَ لِلتَّسليمِ خاشِعَةً * أَبصارُهُنَّ حَسيراتٍ مَكاسيرا
يَطأنَ في الطين وَالأَقدامُ حافيَةٌ * كَأَنَّها لَم تَطأ مِسكًا وَكافورا
لا خَدَّ إِلّا ويشكو الجَدبَ ظاهِرهُ * وَلَيسَ إِلّا مَعَ الأَنفاسِ مَمطورا
أَفطَرتَ في العيدِ لا عادَت إِساءَتُهُ * فَكانَ فِطرُكَ لِلأكبادِ تَفطيرا
قَد كانَ دَهرُكَ إِن تأمُرهُ مُمتَثِلًا * فَرَدّكَ الدَّهرُ مَنهيًّا وَمأمورا
مَن باتَ بَعدَكَ في مُلكٍ يُسرُّ بِهِ * فَإِنَّما باتَ بِالأَحلامِ مَغرورا
وبحسبك رثاؤه لنفسه قبل موته في أبياته الجارية على كل لسان:
قَبرَ الغَريب سَقاكَ الرائِحُ الغادي * حَقًّا ظَفَرتَ بِأَشلاء ابن عَبّادِ
بِالحِلمِ بالعِلمِ بِالنُّعمى إِذِ اتّصلَت * بِالخِصبِ إِن أَجدَبوا بالرِّي لِلصادي
بالطاعِن الضارِب الرامي إِذا اقتَتَلوا * بِالموتِ أَحمَرَ بالضرغامةِ العادي
بالدَّهر في نِقَمٍ، بِالبَحر في نِعَمٍ * بِالبَدرِ في ظُلمٍ، بِالصَّدرِ في النادي
نَعَم هُوَ الحَقُّ وَافاني بِهِ قَدَرٌ * مِنَ السَّماءِ فَوافاني لِميعادِ
وَلَم أَكُن قَبلَ ذاكَ النَعشِ أَعلَمُهُ * أَنَّ الجِبال تَهادى فَوقَ أَعوادِ
كَفاكَ فارفُق بِما استودِعتَ مِن كَرَمٍ * رَوّاكَ كُلُّ قَطوب البَرق رَعّادِ
وما دمنا في الأندلس فلنذكر ابن الأبّار، تبسمت له الدنيا، ورُزق سعادة في التأليف، فترك نحوًا من خمسين كتابًا، وسطع نجمه في دنيا العلوم، لكنه تبدل بعز العلم صحبة الملوك، فلم ينفك ساعيًا في طلب قربهم، حتى لقد أعان من استعان بالنصارى منهم، وكتب لهم، كأبي زيد عبد الرحمن والي بلنسية الذي كان يدفع الإتاوة ليبقى على كرسيه، فلما غُلب التجأ إلى ملك أرغون، وخرج إليه يطلب عونه، وذهب معه ابنُ الأبّار، لكنّ النصراني رغب عنه، فانتقل إلى بعض حصون النصارى وأقام فيه تابعًا لهم، وعاد ابن الأبار إلى بلنسية كاتبًا لزيّان! فلما نزل زيّان هذا لملك النصارى عن بلنسية، كان ابن الأبار هو من كتب عقد تسليم المدينة، فأخذها النصراني وأخرج منها أهلها صاغرين، وخرج ابن الأبار مع الخارجين، وانتهى به المطاف في تونس حيث واصل طلب الوظائف الكبرى، فكثر شانئوه، ولم يزالوا به حتى أمر السلطان بقتله ضربًا بالرماح، ثم أحرقت جثته، وأُخذت كتبه وسماعاته فأُحرقت معه، فكانت نهايته أليمة حزينة، رحمه الله وعفا عنه.
وممن تنكر لهم الزمان مَن نكبهم رؤساؤهم، وكثير ما هم، فمنهم أبو سلمة الخلال، وأبو مسلم الخراساني قتله العباسيون بعد أن أقام بسفك الدماء دولتهم، حتى نقل الطبري أنه قتل في حروبه وما كان يتعاطاه لأجل دولة بني العباس ستمائة ألفٍ صبرًا، زيادة عمّن قتل بغير ذلك! ولم يكتف المنصور بقتله حتى قطعه إرْبًا إرْبًا وألقاه في دجلة، ثم استصفى جميع أمواله، فقد كتب إلى خازنه بكتاب على لسان أبي مسلم أن يقدم بجميع ما عنده من الحواصل والذخائر والأموال والجواهر، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم بكماله مطبوعًا بكل فصِّ الخاتم، فلما رآه الخازن استراب في الأمر، وكان أبو مسلم تقدم إلى خازنه أن إذا جاءك كتابي فرأيته مختومًا بنصف الفص فامض لما فيه، فإني إنما أختم بنصف فصه على كتبي، وإذا جاءك مختومًا عليه بكماله فلا تقبل ولا تمض لما فيه. فامتنع عند ذلك الخازن أن يقبل ما بعث به المنصور، فأرسل المنصور إليه من قتله وأخذ جميع ذلك.
وجميع الانقلابات العسكرية الحديثة نكب فيها اللاحقون السابقين، ومن ورائهم أسرهم ومن كان في معهم، حتى صدق فيهم قول أبي فراس:
ونحن أناسٌ لا توسطَ بيننا * لنا الصدرُ دون العالمين أو القبرُ
رحم الله الرئيس مرسي الذي أودع السجن بغيًا وعدوانا، ولُفقت له التهم ظلما وجورا، ولم يزل يُطلب إلى قضاة فاسدين حتى مات في محكمته، ولم يقنع قاتلوه حتى أتبعوه بابنه، قضى وهو في ميعة الصبا وشرخ الشباب.
لقد بلغت الحال بموسى بن نُصير أن كان يُطاف به ليَسأل من أحياء العرب ما يفتَكُّ به نفسه بعدما نكبه سليمان بن عبد الملك، وفي تلك الحال مات بوادي القرى، وهو من أفقر الناس وأذلهم، سائلا من كان نازلا به، وهو الذي دوّخ
الممالك وأخضع البلدان وأذل الملوك. روى المقرّي أن أحد غلمان موسى ممن ظل وفيًّا له في حال الفقر والخمول قال: لقد رأيتُنا نطوف مع الأمير موسى بن نصير على أحياء العرب، فواحد يجيبنا وآخر يحتجب عنا، ولربما دفع لنا على جهة الرحمة الدرهم والدرهمين، فيفرح بذلك الأمير ليدفعها إلى الموكلين به، فيخففون عنه من العذاب، ولقد رأيتُنا أيام الفتوح العِظام بالأندلس نأخذ السلوك من قصور النصارى فنفصل منها ما يكون من الذهب وغير ذلك ونرمي به، ولا نأخذ إلا الدر الفاخر، فسبحان الذي بيده العز والذل والغنى والفقر، ورحم الله القائل:
لا تَعْتَبَنَّ على الزّمان فما * عند الزمانِ لِعاتِب عُتبى
ولئن عَتَبْتَ على الزّمان لِما * يأتي به، فَلَقَلَّ ما ترضى
والحقد والحسد في الرؤساء دأب قديم، وخلق معروف، وقد أُنشد بعض الرؤساء بيت المقنع:
وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
فقلبه الرئيس وقال: "من يترك الحقدا" ثم قال: إن السيد إذا ترك إضمار الخير والشر والمجازاة عليهما اجتُرِئَ عليه، ونُسب للضعف والغفلة، وهل رأيت صفقة أخسر من غفلة رئيس أحقده غيره فنسي ذلك أو تناساه، وعدوُّه لا يغفل عنه؟ وحاسده لا ينفعه عنده إلا الراحة منه، وهو في واد آخر عنه؟ ولم يكن هذا الخُلُق حكرًا على أمة دون أمة، وإن تجاوزته اليوم أمم كثيرة بما توصلت إليه من أنظمة للحكم تضمن التداول السلمي للسلطة، فالناظر في تاريخ الإمبراطورية الرومانية قل أن يجد إمبراطورًا جاء إلا نكب عائلة من سبقه، وأخافها من بعد أمن، خشية أن ينبت منهم من يطلب الملك أو يدعو إليه، بل لقد كان يُنكب من يتوسم فيه طلب الملك، وحسبنا أن نذكر نكبة إمبراطور روما تيبيريوس لعائلة كاليجولا، قتل أباه، ونفى أمه، وأعدم أحد أخويه وزج بالآخر في السجن، ووضعه هو وأخواته تحت الإقامة الجبرية والحراسة المشددة، فانقلبت حياته وساءت أحواله، ظلمًا وعدوانًا، تحت ما عرف بمحاكمات الخيانة، وهو ما زلنا نراه إلى يومنا هذا في بعض البلاد العربية الكبيرة، فلها الشكر أن أبقت هذا التاريخ الأسود حاضرًا ليتعلم الناس التاريخ دون رجوع إلى كتبه!
وكم من إنسان كان يرفل في النعيم أقعده مرض ألم به، أو حادث طارئ وقع له، غير مسار حياته، ومن ورائها حياة عياله، فافتقروا من بعد غنى، وضعفوا من بعد قوة، وذلوا من بعد عز، وليس هذا الأمر حكرًا على أحد دون أحد، فقد يقع للغني كما يقع للفقير، وللصغير كما يكون للكبير، وليس ما صار إليه ميخائيل شوماخر منا ببعيد، فانظر أين كان وإلام صار، وتأمل قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا.
بل يقع هذا للجماعات وقوعه للأفراد، وقد حدثنا التاريخ مطولا عن نكبة الطالبيين على يد الأمويين الذين فجروا في الخصومة، وأسرفوا في القتل، لم يسلم من شرهم صغير من تلك الأسرة الشريفة ولا كبير، ولا رجل ولا امرأة، بل كان الجميع غرضًا لحقدهم، وهدفًا لبأسهم، لم يرعوا لهم حقًّا ولا حرمة، وهم الذين بلغوا الغاية من شرف الأرومة وطيب المحتد، فانتهى بهم الحال صرعى مجندلين، حتى رقت لهم القلوب، وبكت عليهم العيون، وما زال الكُتّاب يؤلفون في مصارعهم إلى يوم الناس هذا. ولما صار الأمر لبني العباس نكبوا الأمويين شر نكبة، فانتثر سلكُهم، قُتل منهم من قُتل، وتشرد في الأصقاع من تشرد، وصاروا من خفيض العيش إلى شظفه، ومن سعد الحياة إلى شقوتها، ولم ينج منهم إلا قلة كتبت لها الحياة، عاشت حينا من الدهر خائفة تترقب، تستخفي عن العيون، وتحسد العامّة على ما هي فيه من السلامة، بل تبرأ منهم من كان يمت إليهم بصلة النسب وانحرف الناس عنهم. وقل مثل ذلك في نكبة الصقالبة على يد ابن أبي عامر، والبرامكة على يد الرشيد، والمماليك على يد محمد علي، نكبات نسجت حولها القصص والحكايات، وأُلِّفت فيها الكتب والروايات.
بل إن شعوبا بأكملها نكبت، كما وقع لأهل الأندلس الحزين، تركوا ديارهم، وهجروا مرابع صباهم، وتشتتوا في البلاد، بل بيع كثير منهم في أسواق النخاسة، فذلوا من بعد عز:
يا مَن لِذلَّةِ قَومٍ بَعدَ عِزّتهِم * أَحالَ حالَهُم كفرٌ وَطُغيانُ
بِالأَمسِ كانُوا مُلُوكًا فِي مَنازِلهِم * وَاليَومَ هُم في بِلادِ الكُفرِ عُبدانُ
فَلَو تَراهُم حَيارى لا دَلِيلَ لَهُم * عَلَيهِم من ثيابِ الذُلِّ أَلوانُ
وَلَو رَأَيت بُكاهُم عِندَ بَيعهمُ * لَهالَكَ الأَمرُ وَاستَهوَتكَ أَحزانُ
يا رُبَّ أمٍّ وَطِفلٍ حيلَ بينهُما * كَما تُفَرَّقُ أَرواحٌ وَأَبدانُ
وَطفلَةٍ مِثلِ حُسنِ الشَمسِ إِذ برزت * كَأَنَّما هيَ ياقُوتٌ وَمَرجانُ
يَقُودُها العِلجُ لِلمَكروهِ مُكرَهَةً * وَالعَينُ باكِيَةٌ وَالقَلبُ حَيرانُ
لِمثلِ هَذا يَبكِي القَلبُ مِن كَمَدٍ * إِن كانَ في القَلبِ إِسلامٌ وَإِيمانُ
ولِمَ نُمعن في التاريخ وأمامنا شعوب عربية انقلبت أحوال كثير من أهلها؟ أُخرجوا من ديارهم وكانوا فيها آمنين، لكل منهم حكاية مُبكية، وكم سمعنا منهم من قصص تُدمي القلوب، ورأينا كثيرًا منهم وقد توزعتهم البلدان، يطلبون فيها اللجوء صاغرين، بعد أن جارت عليهم بلادهم، فتركوا أعمالهم وأموالهم وبيوتهم، وتجشموا أهوال الهجرة نجاة بأنفسهم وأهليهم، نسأل الله العافية ونعوذ به من تقلب الأيام وجور الزمان.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  2441