الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

سُكْر الشباب

محمد خليل الزَّرُّوق

مقالة

تاريخ النشر: 2020/11/03
اقرأ للكاتب
كلما رأيت شيخا كبيرا يحمل أثقال الهرَم توقفت واعتبرت، وقلت: إنه لم يصل إلى هذا باختياره، وإنه كان في شبابه -كما كنت- يرى الوقت متسعا، والعمر متطاولا، والأمل ممتدا، وينفق من العمر ومن الصحة إنفاق من لا يخشى الإقلال، والحقيقة المرة أنك لم تعط زمنا مفتوحا ولا صحة دائمة ولا قوى خالدة، وكل ما تتمتع به في شبابك مؤقت، وهو يتناقص شيئا فشيئا ويوما فيوما ويتسرب من بين يديك وينفد وأنت لا تشعر. وليس المطلوب أن تعيش في حزن وغم، ولا أن تقتر على نفسك، ولا ألا تستمع بالطيبات، لا لا ليس هذا، ولكن المهم أن تعرف أن اللذات منقضية وهي ابنة لحظتها، وهي بعد ذهابها لا يكون منها إلا الذكرى، ومنها اللذات المعنوية كراحة البال أو محبة الناس أو الذكر الحسن أو الشهرة عند من يحبها أو الجاه عند من يطلبه، فضلا عن اللذات الحسية، وإذا كان ذلك كذلك فما الذي بقي من رأس مالك، وهو ما أُعطيت من عمر وصحة؟ وهو سؤال يجب أن تسأله نفسك، لأنك لم تخلق لتأكل وتشرب وتسعد وتلتذ، ثم تنظر فلا تجد في يدك شيئًا تمسكه، ثم ينقضي الأمر إلى شيخوخة تحمل أثقالها وأدواءها.
ولذلك كلما حادثت شابا نصحت له: استثمر وقتك، واحفظ صحتك، فإنهما غير باقيين، ولا يغرنك الشباب، فإنه إلى ذهاب. وهو ما نبه عليه نبينا صلى الله على نبينا والسلام عليه، فقال: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ". وإذا كان العمر يمضي والصحة تبلى فما الاستثمار الأمثل لهذين المعطيين الوحيدين اللذين يمكن استثمارهما في ما هو باق، وكل لحظة تمر عليك بغير هذا الاستثمار هو في الحقيقة الخسران الذي لا خسران بعده؟ وهو مِثل الذي في يده حُزَم من الأوراق النقدية، وهو يسير في الطريق، ويلقي من يده هذه الأوراق ورقة ورقة، فتأخذها يد الريح. وهذا مثل فحسب للشيء الثمين، وإلا فإن منحة الحياة والعمر لا يعدلها شيء من المال. إن هذا المعنى هو ما حوته سورة قصيرة من القرآن: "والعصر إن الإنسان لفي خسر" إلى آخر السورة.
إن العصر الذي نعيش فيه من أسوأ العصور في تبديد العمر وتبديد الصحة، وذلك بكثرة الملهيات التي تأكل الوقت، وكثرة المآكل المصنوعة التي تقتل الصحة، ولذلك يجب أن يواجه بخطة فريدة. تركتُ وظيفة مرة وصرت أبحث عن غيرها فأغلقت هاتفي، فعجب زميل لي من ذلك، وأساء بي الظن، وقال: الآن تقفل هاتفك؟ ولم أستطع أن أشرح له الأمر، فسكتُّ.
أعظ أبنائي كثيرا وطلابي وأصدقائي دائما في ذلك، ومرة أدرت لأبنائي من الهاتف العداد التنازلي للوقت، وقلت لهم: أعماركم مثل هذا العداد انطلق العد منذ الولادة وهو في تناقص مستمر. وأنا موقن أنهم في سكرة الصبا ويستمعون إلى هذا الكلام كما يستمعون إلى طرفة أو مشهد تمثيلي للترويح، فضحكوا ومضوا. وليس أضر على الشباب من سكر الشباب، والله. إن تعبير: "وعن شبابه فيم أبلاه" تعبير صادق بليغ، إنه البلى، كما يبلى الثوب، شيئا فشيئا وأنت لا تشعر، فتجد نفسك شيخا كبيرا، كما يمر يوم أو بعض يوم.
رسم نبينا صلى الله على نبينا وعليه السلام خطوطا على الأرض، وهي أقدم وسيلة إيضاح إسلامية، فماذا رسم؟ رسم مربعا ثم رسم في وسطه خطا، ولكن هذا الخط يخرج من المربع، ثم شرح لهم أن المربع هو الأجل، والخط الخارج منه هو الأمل، فالأمل دائما يتجاوز الأجل، كما في القصة التي يحكيها العامة عندنا عن الصديق الذي يطلبه صديقه فيعتل بالشغل، فأخذه إلى المقبرة، وقال له: كل هؤلاء لم يكملوا أشغالهم. في اليوتيوب الآن فرصة لأن ترى الإنسان الواحد في شبابه فرحا بشبابه ولا سيما من العابثين الماجنين، ثم في شيخوخته، إذ ألقى عليه الزمن كلكله، وصار يحمل أياما هي أرقام فحسب لا ثمرة فيها تنفعه أو تنفع الناس.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  2381