الرئيسية | المتن | كنوز التراث | مختارات | تعريف | ديوان المطالعين | إدارة الموقع  

الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام

مصطفى صادق الرافعي

مقالة

تاريخ النشر: 2020/10/31
اقرأ للكاتب
كما تطلعُ الشمس بأنوارها فتُفجِّر ينبوع الضوء المسمَّى النهار، يُولد النبيُّ فيُوجِد في الإنسانية ينبوع النور المسمى بالدين. وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقِّق أعمالها، وليس الدين إلا يقظة النفس تحقِّق فضائلها.
والشمس خلقها الله حاملةً طابعَهُ الإلهي، في عملها للمادة تحَوِّل به وتُغيِّر، والنبي يرسله الله حاملًا مثل ذلك الطابع في عمله تترقَّى فيه وتسمو. ورعشاتُ الضوء من الشمس هي قصةُ الهداية للكون في كلامٍ من النور، وأشعة الوحي في النبي هي قصة الهداية لإنسان الكون في نور من الكلام. والعامل الإلهي العظيم يعمل في نظام النفس والأرض بأداتَيْن متشابهتَيْن: أجرام النور من الشموس والكواكب، وأجرام العقل من الرسل والأنبياء.
فليس النبيُّ إنسانًا من العظماء يُقرأ تاريخه بالفكر معه المنطق، ومع المنطق الشك، ثم يُدرَس بكل ذلك على أصول الطبيعة البشرية العامة، ولكنَّه إنسان نَجمي يُقرأ بمثل "التلسكوب" في الدقة، معه العِلم، ومع العِلم الإيمان، ثم يُدرَس بكلِّ ذلك على أصول طبيعته النورانية وحدها.
والحياة تُنشئ علمَ التاريخ، ولكنَّ هذه الطريقة في درس الأنبياء -صلوات الله عليهم- تجعل التاريخ هو يُنشئ عِلم الحياة، فإنما النبي إشراق إلهي على الإنسانية، يُقوِّمها في فلكها الأخلاقي، ويجذبها إلى الكمال في نظام هو بعينه صورة لقانون الجاذبية في الكواكب.
ويجيء النبي فتجيء الحقيقة الإلهية معه في مثل بلاغه الفن البياني، لتكون أقوى أثرًا، وأيسرَ فهمًا، وأبدع تمثيلًا، وليس عليها خلاف من الحس. وهذا هو الأسلوب الذي يجعل إنسانًا واحدًا فنَّ الناس جميعًا، كما تكون البلاغة فنَّ لغةٍ بأكملها، وهو الشخص المفسِّر إذا تعسَّفَ الناسُ الحياةَ لا يدرون أين يؤمُّون منها، ولا كيف يتهدَّون فيها، فتضطربُ الملايين من البشرية اضطرابها فيما تنقبض عنه وتتهالك فيه من أطماع الدنيا، ثم يُخلق رجلٌ واحد ليكون هو التفسير لما مضى وما يأتي، فتظهر به حقائق الآداب العالية في قالبٍ من الإنسان العامل المرئي، أبلغ مما تظهر في قصة متكلِّمة مرويَّة.
وما الشهادة للنبوة إلا أن تكون نفسُ النبي أبلغَ نفوس قومه، حتى لَهُوَ في طباعه وشمائله طبيعةٌ قائمةٌ وحدَها، كأنها الوضع النفساني الدقيق الذي يُنصَبُ لتصحيح الوضع المغلوط للبشرية في عالم المادة وتنازع البقاء. وكأن الحقيقة السامية في هذا النبي تنادي الناس: أنْ قابلوا على هذا الأصل، وصحِّحوا ما اعترى أنفسَكم من غلط الحياة وتحريف الإنسانية.
ومن ثمَّ فنبيُّ البشرية كلها مَن بُعِث بالدين أعمالًا مفصَّلة على النفس أدقَّ تفصيل وأوفاه بمصلحتها، فهو يعطي الحياة في كل عصر عقلَها العمليَّ الثابت المتجدِّد المتغيِّر تُنظِّم به أحوال الطبيعة على قصد وهدى، وهذه هي حقيقة الإسلام في أخص معانيه، لا يُغني عنه في ذلك دينٌ آخر، ولا يؤدِّي تأديتَهُ في هذه الحاجة أدبٌ ولا علمٌ ولا فلسفةٌ، كأنما هو نبعٌ في الأرض لمعاني النور، بإزاء الشمس نبع النور في السماء.
وكلُّ ذلك تراه في نفس محمد ﷺ؛ فهي في مجموعها أبلغ الأنفس قاطبة، لا يمكن أن تعرف الأرضُ أكملَ منها، ولو اجتمعتْ فضائل الحكماء والفلاسفة والمتألِّهين وجُعلت في نصابٍ واحد، ما بلغتْ أن يجيء منها مثلُ نفسه ﷺ. ولكأنما خرجت هذه النفس من صيغة كصيغة الدُّرَّة في محَّارتها، أو تركيبٍ كتركيب الماس في منجمه، أو صفة كصفة الذهب في عرقه. وهي النفس الاجتماعية الكبرى، من أين تدبَّرتَها رأيتَها على الإنسانية كالشمس في الأفق الأعلى تنبسط وتضحى.
وتلك هي الشهادة له ﷺ بأنه خاتم الأنبياء، وأن دينه هو دين الإنسانية الأخير، فهذا الدين في مجموعه إن هو إلا صورة تلك النفس العظيمة في مجموعها: صلابته بمقدار الحق الإنساني الثابت، لا بمقدار الإنسان المتغير الذي يكون عند سببٍ جبلًا صلدًا يشمخ، وعند سببٍ آخر ماءً عذبًا يجري.
وهو دينٌ يعلو بالقوة ويدعو إليها، ويريد إخضاع الدنيا وحكم العالم، ويستفرغ همَّه في ذلك، لا لإعزاز الأقوى وإذلال الأضعف، ولكن للارتفاع بالأضعف إلى الأقوى، وفرقٌ ما بين شريعته وشرائع القوة، أنَّ هذه إنما هي قوة سيادة الطبيعة وتحكُّمها، أما هو فقوةُ سيادة الفضيلة وتغلُّبها، وتلك تعملُ للتفريق، وهو يعمل للمساواة. وسيادة الطبيعة وعملها للتفريق هما أساس العبودية، وغلبة الفضيلة وعملها للمساواة هما أعظم وسائل الحرية.
ومن هنا كان طبيعيًّا في الإسلام ما جاء به من أنه لا فضيلة إلا وهو يطبع عليها صورة الجنة بنعيمها الخالد، ولا رذيلة إلا وهو يضع عليها صورة النار الأبدية وقودُهُا الناس والحجارة، فلا تنظر العين المسلمة إلى أسباب الحياة نظرة الفكر المنازع: يحرص على ما يكون له، ويَشْرَهُ إلى ما ليس له، ويمكُرُ الحيلةَ، ويبدعُ وسائل الخداع، ويزيدُ بكل ذلك في تعقيد الدنيا؛ بل نظرة القلب المسالم: يخلع الدنيا ويسخو بكل مضنونٍ فيها، فيعفُّ عن كثير، ويعرف الإنسانية ويطمع في غاياتها العليا، فيعفو عن كثير، ويدرك أن الحلال وإن حلَّ فوراءه حسابه، وأن الحرام وإن غرَّ ليس إلا تعلُّل ساعةٍ ذاهبةٍ ثم من ورائه عقاب الأبد.
ويخرج من ذلك أن يكون أكبر أغراض الإسلام هو أن يجعل من خشية الله تعالى قانون وجود الإنسان على الأرض، فمن أيِّ عِطْفَيْه التفتَ هذا الإنسان وجد على يمنته ويسرته ملكَيْن من ملائكة الله يكتبان أعماله بخيرها وشرِّها، فهو كالمتهم المستراب به في سياسة النفس: لا يمشي خطوة إلا بين جاسوسَيْن يحصيان عليه حتى أسباب النية، ويجمعان منه حتى نزوات الكبد، ويترجمان عنه حتى معاني النظر.
وإذا قامت هذه المحكمة الملائكية وتقرَّرت في اعتبار النفس، قام منها على النفس شرعٌ نافذ هو قانون الإرادة المميِّزة، تريد الحسنات وتعمل لها، وتخشى السيئات وتنفر منها، فإذا معاني الجسد يحكم بعضها بعضًا، لا لتحقيق الحكومة والسلطة، ولكن لتحقيق الخير والمصلحة، وإذا نواميس الطبيعة المجنونة في هذا الحيوان قد نهضت إلى جانبها نواميس الإرادة الحكيمة في الإنسان، وإذا كلُّ صغيرة وكبيرة في النفس هي من صاحبها مادة تهمةٍ عند قاضيها في محكمتها، وإذا كلُّ ما في الإنسان وما حول الإنسان لا يُراد منه إلا سلام النفس في عاقبتها، وإذا معنى السلام هو المعنى الغالب المتصرف بالإنسانية في دنياها.
وكل أعمال الإسلام وأخلاقه وآدابه، فتلك هي غايتها، وهذه هي فلسفتها، لا يقررها للإنسانية حَسْب، بل يغرسها في الوراثة غرسًا بالاعتياد والمران الدائم، لتكون علمًا وعملًا، فتمكِّن لسلام النفس بين الأسلحة المسدَّدة إليها من ضرورات الحياة، في أيدي الأعداء المتألِّبة عليها من شهوات الغريزة.
فليس يعمُّ السلام إلا إذا عمَّ هذا الدين بأخلاقه فشمل الأرض أو أكثرها؛ فإنَّ قانون العالم حينئذٍ يُصبح منتزَعًا من طبيعة التراحم، فإما انتسخ به قانون التنازع الطبيعي، وإما كسر من شِرَّته؛ ويُولد المولود يومئذٍ وتُولد معه الأخلاق الإنسانية.
تقريرُ معنى الدوام لكلِّ أعمال النفس حتى مثقال الذرة من الخير والشر، وضبط ذلك برياضةٍ عملية دائمة مفروضة على الناس جميعًا، هذا هو أساس العقيدة الإسلامية، ولا صلاح للإنسانية بغيره يردُّها إلى سبيل قصدها، فإن من ذلك تكون الصفة العقلية التي تغلب على المجتمع، وتُجانِس بين أفراده، فتوجِّه الإنسانية كلَّها نحو الممكن من كمالها، ولا تزال توجِّهها نحو ما هو أعلى، وتحكم فاسدها بصالحها، وتأخذ عاصيها بمطيعها، وتجعل الشرف الإنساني غرضها الأول؛ لأن الله الحقَّ غرضُها الأخير؛ فيصبح المرء -وهذا دينه- كلما تقدَّم به العمر كَمُل فيه اثنان: الإنسان، والشريعة. ولا يعود طالب السعادة النفسية في الدنيا كالمجنون يجري وراء ظله ليمسكه؛ فلا يدرك في الآخرة شيئًا غير معرفته أنه كان في عمل باطل وسعي ضائع.
والإسلام يحرص أشد الحرص وأبلغه على تقرير ذلك المعنى الإلهي العظيم، لا بالمنطق، ولكن بالعمل؛ ثم في النفس وعواطفها، لا في العقل وآرائه؛ ثم على وجه التعميم، دون الاستثناء والخصوص؛ وذلك هو سرُّ مشقَّته على النفس بما يفرضُهُ عليها؛ فإن فلسفته أن هذه النفس هي أساس العالم، وأن النظام الخلقي هو أساس النفس، وأن العمل الدائم هو أساس النظام، وأن روح العمل الدائم تكون فيما يشقُّ بعضَ المشقة ولا يبلغ العسر والحرج، كما تكون فيما يسهل بعض السهولة ولا يبلغ الكسل والإهمال.
وللنفس وجهان: ما تُعلِن، وما تُسِرُّ؛ ولا صدق لإعلانها حتى يصدق ضميرها، ولا صلاح لجهرها حتى يصلح السرُّ فيها، ولا يكون الإنسان الاجتماعي فاضلًا بمشهده حتى يكون كذلك بغيبه.
وللعالم كذلك وجهان: حاضره الذي يمرُّ فيه، وآتيه الذي يمتدُّ له؛ ولا يفلح حاضرٌ منقطع لا يورِّث ما بعده كما وَرِث ما قبلَه، وما حاضرُ الإنسانية إلا جزء من عمل الناس في استمرار فضائلهم باقية نامية.
وللنظام أيضًا وجهان: نظام الرغبة على الطاعة والاطمئنان لها، ونظام الرغبة على الخشية والنفرة منها. ولا يستقيم شأنٌ ليس أساسه الطاعة في النفس، ولا يستمر نظام عليه خلاف من فكر العامل به.
وللعمل الدائم طريقتان: إحداهما طريقة الجاد يعمل للعاقبة يستيقنها، فلا يجد مما يشقُّ عليه إلا لذَّة المغالبة للنصر: كلُّ مرارة من قِبَله هي حلاوة فيه من بعدُ، ولا يعرف للمحنة يُبتلى بها إلا معناها الحقيقي، وهو إيقاظ نفسه، فيصبح الصبر عنده كصبر المحبِّ على أشياء ممن تحبُّه؛ صبر فيه من السحر ما يكسو الحرمان في بعض الأحيان خيالَ الاستمتاع، ويذيق النفس في العجز عن بعض أغراضها لذَّةً كلذة إدراكه.
تلك هي فلسفة الإسلام؛ لا قِوام للأمر فيها ولا مِساك له إلا بتقرير معنى الدوام لكل أعمال النفس، ووضع طابع الجنة على أعمال الجنة، وطابع النار على أعمال النار؛ وحياطة كل فرد من الناس حياطة رياضية عملية بين الساعة والساعة، بل بين الدقيقة والدقيقة، بما يكلَّف من أعمال جسمه وحواسه، ثم أعمال قلبه ونيته؛ وتعظيم الشخصية الروحية دون الشخصية المادية، فلا يحاول كلُّ إنسان أن يجعل بطنه في حجم مملكة أو مدينة أو قرية، بما ينتقص من حقوق غيره؛ بل تتسع ذاتيةُ كلِّ فرد بما يجب له على المجتمع من الواجبات الإنسانية؛ وبهذا لا بغيره تتعيَّن مقاييس الأخلاق في الأرض بالمصلحة لا باللذة؛ فلا يقع الخطأ ولا التزوير، وتنحل المشكلة الاجتماعية ما دامت الحياة لا تجد من أهلها كل ساعة عُقَدًا فيها.
والاستيلاء بذلك المعنى على العقل والعاطفة هو وحده الطريقة لإنشاء طبيعة الخير في الناس على نسقها الطبيعي، كما أنه هو وحده الطريقة لتطهير التاريخ الإنساني من أوبائه الاقتصادية، التي جعلته كأنما هو تاريخ الأسنان والأضراس، وتركتِ الناس يهدم بعضهم بعضًا، كما يهدم الجار حائط جاره ليوسع بيته.
وأساس العمل في الإسلام إخضاع الحياة للعقيدة، فتجعلها العقيدة أقوى من الحاجة، فيكون الفقير مُعدمًا ويتعفَّف، ويكون الغني موسرًا ويتصدَّق، ويكون الشَّرِه طامعًا ويُمسك، ويكون القوي قادرًا ويُحجم، وكما قال العربي في تحقيق ناموس الأنَفة والحميَّة وغلبتِهِ على الناموس الاقتصادي: "تجوع الحرة ولا تأكل بثديَيْها".
تريد الإنسانية امتدادًا غير امتدادها التجاري في الأرض، وتحتاج إلى معنى يقود إنسانها غير الحيوان الذي فيه؛ وإذا قاد الغراب قومًا فإنما هو -كما قال شاعرنا- يمرُّ بهم على جيف الكلاب… والإنسانية اليوم في مثل ليلٍ حُوشيٍّ مظلم اختلط بعضه في بعض، وليست معاني الإسلام إلا الإشراق الإلهي على هذه الكثافة المادية المتراكمة، وإذا رُفع المصباح لم تجد الظلام إلا وراء الحدود التي تنتهي إليها أشعته.
وقد علمنا من طبيعة النفس أن إنسانية الفرد لا تعظُمُ وتسمو وتتخيل وتفرح فرحها الصادق وتحزن حزنها السامي، إلا أن تعيش في محبوب؛ فإنسانية العالم لا تكون مثل ذلك إلا إذا عاشت في نبيها الطبيعي، نبي أخلاقها الصحيحة وآدابها العالية ونظامها الدقيق؛ وأين تجد هذا المحبوب الأعظم إلا في محمد ودين محمد؟
وعجيب أن يجهل المسلمون حكمة ذكر النبي العظيم خمس مرات في الأذان كل يوم، يُنادى باسمه الشريف ملء الجو؛ ثم حكمة ذِكره في كل صلاة من الفريضة والسنَّة والنافلة، يُهمَس باسمه الكريم ملء النفس! وهل الحكمة من ذلك إلا الفرضُ عليهم ألا ينقطعوا عن نبيهم ولا يومًا واحدًا من التاريخ، ولا جزءًا واحدًا من اليوم؛ فيمتد الزمن مهما امتد والإسلام كأنه على أوله، وكأنه في يومه لا في دهر بعيد؛ والمسلم كأنه مع نبيه بين يديه تبعثه روح الرسالة، ويسطع في نفسه إشراق النبوة، فيكون دائمًا في أمره كالمسلم الأول الذي غيَّر وجه الأرض؛ ويظهر هذا المسلم الأول بأخلاقه وفضائله وحميته في كل بقعة من الدنيا مكان إنسان هذه البقعة، لا كما نرى اليوم؛ فإن كل أرضٍ إسلامية يكاد لا يظهر فيها إلا إنسانها التاريخي بجهله وخرافاته وما ورث من القدم؛ فهنا المسلم الفرعوني، وفي ناحيةٍ المسلم الوثني، وفي بلدٍ المسلم المجوسي، وفي جهةٍ المسلم المعطِّل… وما يريد الإسلام إلا نفس المسلم الإنساني.
أيها المسلم: لا تنقطع عن نبيك العظيم، وعِشْ فيه أبدًا، واجعله مثلك الأعلى؛ وحين تذكره في كل وقت فكُنْ كأنك بين يديه؛ كُنْ دائمًا كالمسلم الأول؛ كن دائمًا ابن المعجزة.

المصدر: وحي القلم، الجزء الثاني.

الاسم
رمز التحقق  أدخل الرقم في خانة التحقق  2734